لماذا لا يقاومون طردهم من الأرض بالشدة اللازمة؟ .. الفلاحون بين جبروت النظام الحاكم.. وطراوة اليسار (1) *

فى مدونته الأخيرة (سيرة عامل مهمش) التى صدرت فى يوليو 2007 يذكر العم عطية الصيرفى ما مفاده:أنه فى الأيام الأولى لأول وزارة  لثورة يوليو 1952 أبلغ على ماهر رئيس الوزراء أقاربه وأصهاره من عائلة فودة الإقطاعية فى مركز ميت غمر دقهلية بعزم الثورة على إصدار قانون للإصلاح الزراعى.وعلى الفور بادرت العائلة وعميدها راغب بك فودة ببيع ملكياتها من الأراضى الزراعية (3000 فدان) فى قرى ميت غمر والسنبلاوين لتاجر المخدرات ذائع الصيت والسلطان عبد الرحيم المرشدى عن طريق عائلة أخرى تحتكر تجارة " الصنف" فى الوجه البحرى اسمها عائلة الشعار.كان زمام الزراعة بقرية (سمبومقام) بالكامل ضمن هذه المساحة المباعة .. ولذلك لجأ المرشدى لعدد من الإجراءات ولأحد الأشقياء المعروفين للتصرف في الأرض وإسكات أهل القرية.تذمر الأهالي.. لكن تذمرهم كان مكتوما.. فما كان قد حدث منذ أسابيع قليلة في مدينة كفر الدوار على الفرع الغربي لنهر النيل من مذبحة لعمالها وإعدام لإثنين من قادتهم (خميس والبقري) قد خلف مناخا كئيبا وسحبا قاتمة خيمت على مصر كلها فجثمت على المشاعر في الصدور وحبست الدموع في العيون.وفي صباح يوم من أيام سبتمبر52 توجه المرشدي في سيارته المجنونة لمركز شرطة ميت غمر وعاد إلى قرية سمبومقام التي تقع بين قريته ومدينة ميت غمر بقوات من الشرطة مسلحة بقيادة معاون البوليس ( اليوزباشي سمير) يدعمها مدد آخر من أشقياء الريف وأعوان تاجر المخدرات ورجال الإقطاعي راغب فوده وبدأوا مذبحة مروعة لأهالي القرية تتضاءل أمامها أية مذابح أخرى سابقة.. تساقط فيها القتلى والجرحى بالعشرات وتم إصطياد من تسلقوا النخيل منهم –هربا من المجزرة- ليتهاووا على الأرض صرعى، واعتقل حوالي مائة فلاح بعد انتهاء المهمة واستسلامهم ، وسيموا العذاب ضربا بالسياط وغمرا في أحواض سقاية خيل الحكومة ثلاثة أيام متالية بعدها قُدموا إلى القضاء العسكري بتهم شتي.بينما أفلت تاجر المخدرات المرشدي والإقطاعي فودة بفضل حماية علي ماهر رئيس وزراء أول وزارة لثورة يوليو وفازا بالأرض وثمنها.وهكذا تبخر في سمبومقام قانون الإصلاح الزراعي مع ماء المصارف، وفي طبقات الجو العليا التقيا مع أنين الفلاحين ولعناتهم.وما فعله علي ماهر في الدقهلية فعله أنور السادات في المنوفية وسيد مرعي في الشرقية وغيرهم في محافظات أخرى.. فقد تسرب خبر قانون الإصلاح الزراعي قبل صدوره من داخل مجلس قيادة الثورة عام 52 إلى الكثير من الإقطاعيين.. فتصرف بعضهم كما تصرف إقطاعي ميت غمر وشريكه.. ولجأ بعضهم في هدوء وصمت للحيلة والخديعة والتدبير بينما ركبت العنجهية رءوس بعض آخر فتصدوا لتنفيذ القانون بالقوة المسلحة مما اضطر رجال ثورة يوليو – حفاظا على هيبتهم –  لمعاملتهم بالمثل فحاصروهم بالدبابات كما حدث مع الإقطاعي عدلي لملوم في بني سويف.لم تكن تلك الواقعة هي الوحيدة في الأيام أو الشهور الأولى لصدور قانون الإصلاح الزراعي 178/1952 بل ولم تكن الفريدة في أحداثها.. كل ما في الأمر في حالتنا هذه أن شابا ذكيا نشيطا ومهموما بقاضايا مجتمعه.. كان معاصرا للأحداث وقريبا منها فتابع ورصد وسجل ودفعنا لتقليب كثير من صفحات التاريخ في محاولة للإجابة على السؤال: لماذا لا يقاوم الفلاحون طردهم من أراضي الإصلاح الزراعي بالوسيلة اللازمة وبالشدة المطلوبة؟!.وإذا كان السؤال منطقيا.. فمحاولة الإجابة جديرة بالتمحيص والتفنيد ونستأذن القراء في مواربة بابها:بادئ ذي بدء.. نشير إلى تكاتف عناصر ثلاثة تشكل إجابة السؤال: يتصل أولها مباشرة بنظام الحكم والسطلة القائمة في مصر سواء إبان صدور أول قانون للإصلاح الزراعى ، أو في بداية عصر الردة عن السياسات الناصرية بعد حرب أكتوبر 1973 على يد أنور السادات ،أو في قمة "عصر بيع كل شئ " والتحالف مع أعداء الوطن والتبعية لهم.. عصر مبارك.ويتصل ثانيها بدور اليساريين في المسألة سواء في علاقتهم بنظام الحكم القائم في العصور الثلاثة أوفى صلتهم بجماهير الفلاحين في الريف.
أما ثالثها فيتعلق بدور الفلاحين أنفسهم جمهورا وقادة في هذا الشأن.
 أولا: نظام الحكم والسلطة القائمة في مصر

§   كان القضاء علي الإقطاع أحد مبادئ ثورة الجيش في 1952، وحسبما ذكرنا في مقال سابق لم يكن لأغلبية مجلس قيادة الثورة تصور واضح عن حدود وأبعاد الإصلاح الزراعي المزمع إجراؤه، بل لا نبالغ إن قلنا أن ثلاثة أعضاء فقط من هذا المجلس كانوا مع مبدأ الإصلاح الزراعي وأن الأغلبية لم تكن معه إلا لسبب واحد هو إزاحة الإقطاعيين وكبيرهم (الملك) من سدة الحكم والإنتصار عليهم سياسيا، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بتوجيه ضربة قوية لهم تزعزع سيطرتهم الإقتصادية وتخلق حالة شعبية معادية لهم وسط الشعب وخصوصا الفلاحين بالذات وأنهم – أى الإقطاعيين- كانوا متغلغلين في نسيج المجتمع وثنايا الأجهزة السيادية والإدارية كالجيش والشرطة والنيابة والقضاء والخارجية وغيرها علاوة على ما لهم من صلات وثيقة بقطاعات أخرى في الأزهر ووزارة المعارف وبقية فروع النشاط الإقتصادي كالصناعة والتجارة والبنوك وغيرها، بهذه الصورة كانت موافقة الأغلبية فى مجلس قيادة ثورة يوليو على قانون الإصلاح الزراعى موافقة مشروطة وليست مطلقة ولا تتعلق بمبدا الإصلاح الزراعى. §   وبرغم مشاعر البهجة التي غمرت الفلاحين في الريف بصدور قانون الإصلاح الزراعى إلا أن المناخ السائد آنذاك كان متخلفا إلى حد بعيد فالفلاحون لا حول لهم ولا قوة (فهم أميون وفقراء تنتشر بينهم الأمراض والأفكار الغيبية والخزعبلات، وهم خائفون من الوحوش الإقطاعية التي تحكم قراهم ، وغير منظمين في أحزاب حقيقية تبلور توجههم وتقوي شوكتهم، أوفى نقابات ينخرطون فيها وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم أو اتحادات تضمهم وتوحد كلمتهم وتعلن مطالبهم).§   كما أن قانون الإصلاح الزراعي كان مليئا بالثغرات والثقوب.. وقبل أن يصدر كانت أخباره قد وصلت عتاة الإقطاعيين فاستعد كل منهم للأمر بطريقته.. وباتت المباغتة بصدوره أمرا عديم الجدوى.فقد سمحت المادة الرابعة منه للإقطاعيين بفترة سماح (5 سنوات امتدت إلى 7 سنوات فيما بعد) للتصرف في المساحات الزائدة عما حدده القانون (300 فدان للأسرة، 200 فدان للفرد) وهو ما اعتبره الفلاحون بعد ذلك نوعا من تأجيل تنفيذ القانون في كثير من الحالات وفي عدد من القرى خصوصا بالنسبة للإقطاعيين الذين لا يملكون مساحات شاسعة أو الذين تمكنوا من تهريب أراضيهم بطرق وأشكال شتى فالإقطاعيون لمدة سبع سنوات كانوا في حالة تصرف في المساحات الزائدة، يعيشون في القرى ويمارسون حياتهم وبطشهم ربما بمستوى أقل من سابقه لكنها في الحالات التي أبدي فيها الفلاحون مقاومة.. كانت بمستوى أكثر شراسة ودموية.وتوضيحا للصورة نذكر: صادر القانون أراضى الأسرة الملكية التي غادرت مصر وبدأ توزيع أراضيها تمليكا على المعدمين والفقراء من الفلاحين.. ونقلت وسائل الإعلام ذلك لكل ركن في مصر وخارجها.وشاع لدى الرأي العام.. أن ماحدث مع الملك وأسرته وعدد محدود من كبار الإقطاعيين من مصادرة شبه كاملة لأراضيهم قد تم مثله مع بقية الإقطاعيين وهو مالم يحدث، وتصور الفلاحون أن من يعيشون بينهم من الإقطاعيين هم العدد الأقل الذي باتت نهايته قريبة.. لكن بمرور الوقت اكتشفوا أن الأمر ليس بهذه البساطة.. فقد كان الإقطاعيون – الذين لا يزيدون عن 1082 شخصا ويشكلون 336 أسرة ينشطون هم أو رجالهم وأعوانهم – في الجمعيات التعاونية الزراعية ويمارسون فيها كثيرا من السطوة الإجتماعية والإدارية القديمة، حتى التنظيم السياسي الجديد (هيئة التحرير) كانوا يسيطرون عليه في قراهم، علاوة على ما يظهرونه من فرحة في كل الأزمات التي تحيق بالوطن كالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بما يعني من بعض الزوايا أن أملهم في استعادة وضعهم القديم لم يأفل.. ولم ينته، وتكرر ذلك في عام 1961 إبان أحداث انفصال الوحدة المصرية السورية.لقد كانت مصادرة أراضي الدائرة الملكية تختلف عن مصادرة أراضى أغلبية الأسر الإقطاعية حيث تمت الأولى بسهولة ويسر بينما مثلت الثان
ية عملية معقدة جدا
.. فجملة الأجهزة الإدارية خصوصا فروع هيئة الإصلاح الزراعي في الأقاليم كانت متواطئة مع الإقطاعيين وكان بعض أفرادها يعملون في الوسايا الإقطاعية قبل صدور القانون، وأجهزة الشرطة كانت في خدمتهم خصوصا قبل الثورة.. ولم يفقد أغلبها تعاطفها معهم بعدها.. وكان كثير من أفرادها ضالعا في قهر الفلاحين وتلفيق التهم لقادتهم.. ووصل بعض هؤلاء الضباط لمنصب وزير الداخلية فيما بعد.
وهذا بخلاف مالهم من صلات وأبناء ومناصرين في سلك النيابة والقضاء وغيرها.§   ولأن الجزء الأقل من أراضى اقطاعيين كان هو المسجل فى السجلات الرسمية بينما الجزء الأكبر لم يكن كذلك .. فقد كان إما مغتصبا أو خاضعا لحيازتهم بوضع اليد أو مستبدلا من الفلاحين أو مُشترى منهم بعقود عرفية أو صورية بالإكراه.. فقد لعبت مصلحة الشهر العقاري ومصلحة المساحة وموظفي هيئة الإصلاح بالأقاليم الدور الأكبر في تيسير عمليات تهريب الأراضى، ولذلك تمكن عديد من الأسر الإقطاعية من تهريب مساحات كبيرة من أراضيها والإبتعاد عن تطبيق القانون لمدة 9 سنوات كاملة أي حتي قبيل صدور القانون الثاني للإصلاح رقم 127/1961 كما حدث في كمشيش.ولما اشتعل الصراع في بعض القرى القليلة مع الفلاحين و أبلغوا عن تهرب الإقطاع من تطبيق القانون أوفد مجلس قيادة الثورة أحد أعضائه (أنور السادات) لحل النزاع.. إلا أن قادة الفلاحين فوجئوا بمنطق مندوب الثورة أقرب لمنطق الإقطاعي فرفضوه وتكررت المحاولة وتكرر الرفض الذي أسفر عن قرار للسادات بإعتقال 27 من قادة الفلاحين أطاح بهم لمدة عشرين شهرا في معتقل قنا.§   كذلك شكلت جماعة الإخوان المسلمين سندا معنويا وإيديوليوجيا هائلا للإقطاعيين وعاملا مثبطا لأية أفكار أو إجراءات تستهدف مقاومة الفلاحين لهم أو تسعى لفضح عمليات تهريب الأرض والتحايل على قانون الإصلاح.. وتشكل تجربة صلاح حسين في كمشيش مثالا حيا على هذا الإنحياز حيث اكتشف أن الجماعة قد فتحت دهاليز خليفة مع الإقطاع بينما في الظاهر تبدي تعاطفها مع الفلاحين.. وإزاء المواجهة بينه وبين الجماعة أسفرت الأخيرة عن حقيقة موقفها وأشهر قادتها في وجهه الآية الكريمة [وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات] مما دفعه لقطيعة أبدية معها.لقد حلت ثورة يوليو كل الأحزاب السياسية بما فيها حزب الوفد بينما أبقت على جماعة الإخوان المسلمين التي عارضت قانون الإصلاح في ركنيه الأساسيين وهما:1- الحد الأقصى للملكية (حيث رأت الجماعة ألا يقل الحد الأقصى عن خمسمائة فدان للفرد بدلا من مائتين ومن ثم 750 فدانا للأسرة بدلا من ثلاثمائة).2-   ونوعية المستفيدين من القانون (التي رأت الجماعة أن يكونوا من الفلاحين الأثرياء بدلا من المعدمين والفقراء).باختصار كانت معركة الإصلاح الزراعي دائرة بين رجال ثورة يوليو من جانب وبين الإقطاعيين وبعض الأحزاب السياسية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر في الوقت الذى جلس فيه الفلاحون فى مقاعد المشاهدين باستثناء بؤر محدودة فى بعض القرى من أبرزها كمشيش التي اندلع فيها الصراع فور قيام الثورة بسبب وجود قيادة طلابية وفلاحية تتمتع بكثير من الحس الوطني وبعض الوعي السياسي الذي صهرته حرارة الصراع وارتقت به بالتدريج واستجمعت وراءها أغلب فلاحي القرية حتى تم كشف الأرض المهربة وإبعاد الإقطاعيين عن القرية، وتخطت الميول المهادنة لبعض الإتجاهات في مجلس قيادة الثورة التي سعت لفرض حلول توفيقية تبقي على الوضع دون تغيير حق
يقى
.. تلك الميول التى تضع العراقيل أمام حركة فلاحية شعبية ربما تتجاوز الآفاق التي توقعها أوحددها رجال ثورة يوليو خطا أحمر محظورا تجاوزه.
يؤكد ذلك ويوضحه دور الأجهزة التي كلفت بإجراء انتخابات الإتحاد القومي في قرية كمشيش فبرغم تفوق كفة الفلاحين الواضح على كفة الإقطاع إلا أنها – أى الأجهزة – أمسكت العصا من المنتصف وقسمت مقاعد التنظيم السياسي مناصفة بين ممثلي الإقطاع والفلاحين.   هذا وقد تضمن قانون الإصلاح الزراعي دفع تعويض للإقطاعيين مقابل الأرض التي تمت مصادرتها مما أشعرهم بأن السلطة الجديدة تُقِر من حيث المبدأ بانتزاعها حقا أصيلا من حقوقهم رغم أن حجم ما صودر منهم من أراض لم يكن يشكل سوى جزء محدود من مصدر واحد من مصادر ثروتهم المتعددة وهو الأرض الزراعية هذا من ناحية.   ومن ناحية أخرى كان تمليك الأرض المصادرة للفقراء من الفلاحين مشروطا بتسديدهم لأقساط ثمنها على 40 قسط سنوي تحصلها منهم الهيئة العامة للإصلاح الزراعي ولم يراع المشرع أو سلطة يوليو أية تحوطات لإحتمال تغير الوضع السياسي الجديد.. ومن ثم إمكانية استعادة هذه الأرض من الفلاحين خصوصا وأن السلطة الجديدة كانت محط توجس ثم تربص الدوائر الإستعمارية.لقد كان تمليك الأرض المشروط بتسديد ثمنهاأهم الثغرات التى نفذت منها سياسات الردة التى خطط لها ودشنها الساداتودفعها مبارك خطوات بعيدة إلى الأمام .                                                                                                                                                  بشير صقر نشرت فى جريدة البديل فى 3/10/2007 ص 11  .