التنظيمات الفلاحية فى مصر .. بين هزال الوعى .. وافتقاد القدوة : لماذا أحجم الفلاحون عن دخولها..؟وانهار ما أقامه المثقفون منها ؟

اتحاد الفلاحين المصريين المنتحر      مثالا 

 

تمهيد:  تملكت السياسيين الناشطين فى صفوف الفلاحين – فى النصف قرن الأخير- رغبة عارمة فى انخراط الفلاحين فى تنظيمات وأشكال كفاحية متعددة تمكنهم من انتزاع حقوقهم السياسية والنقابية .. وتساعدهم على التحول من مجرد أفراد معزولين مبعثرين معدومى الفاعلية والتأثير إلى قوة سياسية واقتصادية واجتماعية لها وزنها وصوتها المسموع فى المجتمع. ورغم تعدد المحاولات الساعية لتأسيس تلك الأشكال خلال العقود المنصرمة .. إلا أنه لم يكتب لها النجاح .. علاوة على ما أصاب الأغلبية الساحقة منها من انهيارات درامية ( صامتة وذات ضجيج) فضلا عن تدهور أوضاع الفلاحين الفقراء والصغار التى كانت تستهدف تحقيق مصالحهم .. رغم حسن النية الذى لازم تأسيسها وغلف أهدافها.والملاحظ فى كل هذه الأشكال أن الفلاحين كانوا بعيدين إلى حد كبير عن السعى لتأسيسها بينما انفرد النشطاء من السياسيين بتلك المهمة. كما لم يقبل الفلاحون على الانضواء فيها كأعضاء .. وإن كانت تضم عددا محدودا منهم ممن يطلق عليهم القيادات الفلاحية التلقائية ، وهؤلاء (الأعضاء) بالطبع يختلفون عن الجمهور المحيط بها. 

الدولة تنظم الفلاحين فى هيئات (جمعيات ) تعاونية: 

بالعودة إلى خمسينات القرن الماضى .. نجد أن ثورة يوليو 52 قد أسست جمعيات زراعية للمنتفعين بأراضى الإصلاح الزراعى بنوعيها ( الاستيلاء ، والحراسة) حيث ألزم القانون جميع المنتفعين بالانضمام لها. كما كان هناك نوع آخر من الجمعيات الزراعية لبقية فلاحى مصر اسمه جمعيات الائتمان يقوم بنفس المهمة [ توفير مستلزمات الإنتاج الزراعى لأعضائها من بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف وآلات زراعية، ومدهم بالقروض الزراعية منخفضة الفائدة (4 % )] وتحصّل منهم أثمانها فى نهلية كل موسم زراعى وتلزمهم بتوريد المحاصيل لتتولى تسويقها للاستهلاك المحلى وللتصدير. كان دور هذه الجمعيات الزراعية" التنظيمات التعاونية" هو مد الفلاحين بمستلزمات الإنتاج الزراعى كجزء من خطة حكومية معدة سلفا لزراعة مساحات محددة من الأرض بأصناف معينة من المحاصيل الزراعية تلبى الاستهلاك المحلى وتفى بالتزامات الدولة التصديرية فى ظل أسعار إلزامية سواء لشراء المحاصيل من الفلاحين أو لبيع مستلزمات الإنتاج الزراعى لهم. وللحق فقد عادت على الفلاحين منها مجموعة من الفوائد إلا أن تلك "التشكيلات التعاونية" لم يكن فيها شئ من التعاون.. حيث كانت أٌقرب:

* لمحلات تجارة مستلزمات الإنتاج .. 

* و لشوَنْ شراء المحاصيل. 

·        ولهيئة رقابة تشرف وتتيقن من دقة الإلتزام بالمساحات المزروعة والأصناف المقرر زراعتها. 

 فالتعاون الحقيقى يعنى حرية الفلاحين فى الشراء الجماعى لوسائل الإنتاج وحقهم فى تحديد المساحات التى يزرعونها بحرية.. واختيارالمحاصيل التى يرونها أكثر جدوى اقتصادية مع الإلتزام بالحفاظ على خصوبة التربة من خلال نظام الدورة الزراعية.. وممارسة التفاوض الجماعى بشأن تسويق محاصيلهم، أو على أقل تقدير الأخذ بيدهم لفهم تلك الحقوق والحريات وممارستها، ولا يعنى ذلك تجاهل التزامات الدولة المختلفة إزاء توفير الغذاء المحلى وتصدير المحاصيل النقدية.. بل يكون الأمر من خلال الحوار المشترك بين الفلاحين والدولة لرفع مستوى معيشة  الفلاحين وتطوير الزراعة المصرية .. وتدريب الف
لاحين على ممارسة الحقوق الديمقراطية التى لم يعرفوها من قبل.. فى المجال الزراعى.
 

باختصار كانت هذه الشبكة الواسعة من الجمعيات "التعاونية" الزراعية  ماعونا يتلقى مستلزمات الإنتاج من الدولة .. ومصبا يفيض بالحاصلات الزراعية أيضا للدولة. 

·   واستمر ذلك الوضع حتى انفرد أنور السادات بمقاليد الحكم عام 1971 ومعه بدأت مرحلة جديدة فيما يختص بمصيرالوطن والزراعة والفلاحين.. تمثل فى التحضير والإعداد لهيكلة الزراعة المصرية وذلك بإلغاء وتعديل مجموعة من القوانين العامة والزراعية واستحداث مجموعة أخرى كان أبرزها فى مجال الزراعة أربعة قوانين هى رفع الحراسة (69 / 1974) عما تم التحفظ عليه من أراضى الإقطاعيين ، وتعديل قانون التعاون الزراعى الخاص بوظيفة الجمعيات الزراعية..  وكذا قانون الائتمان الزراعى الذى نقل ملكية رؤوس أموال الجمعيات الزراعية ( التى هى أموال الفلاحين)-  دون مبرر منطقى- إلى بنوك القرى ورفع سعر الفائدة على القروض لتتساوى مع فوائد القروض التجارية، فضلا عن  إلغاء قانون الدورة الزراعية الذى كان يلزم الفلاحين بزراعة مساحات من محاصيل محددة كالقطن وقصب السكر والقمح والأرز .. وتوريد إنتاج الأول والثانى كاملا للدولة ونسبة محددة من الثالث والرابع.وقد مثلت القوانين الأربعة المذكورة مدخلا هاما لإملاءات الصندوق والبنك الدوليين التى اشتهرت بسياسة هيكلة الزراعة.. بعدها تم إغراق الريف بفيض من القوانين والإجراءات والتعليمات التى غيرت وجه الزراعة والفلاحين تغييرا واضحا.. واستمر ذلك بمعدلات أسرع فى عهد ما بعد السادات.  

·   لم يتمكن النشطاء السياسيون-  أو لم يحاولوا-  فى الحقبة الناصرية من لعب أى دور فى شرح أبعاد فكرة التعاون بين الفلاحين لتطوير إنتاجهم والدفاع عن حقوقهم وحريتهم فى زراعة أرضهم و تسويق محاصيلهم بطريقة مختلفة عما كان سائدا.. وتحويلهم إلى قوة لها دور حقيقى فى المجتمع باستثناء محاولات الشهيد صلاح حسين الخاصة بالدفاع عن الأرض ووقف السخرة وطرح فكرة التعاون والتى انتهت باغتياله. 

·   وفى بداية الثمانينات جرت محاولة لتأسيس اتحاد للفلاحين تبناها عدد من قيادات حزب اليسار الشرعى ( التجمع) أسفرت حسبما نصت وثائقه عن تجنيد عضويات فى ( 15- 18) محافظة، ونشط فى الالتقاء بالفلاحين وعقد الاجتماعات، وأصدر نشرة تثقيفية.. إلى أن أصدرت الدولة قانون العلاقة بين المالك والمستأجر 96 / 1992 المعروف بقانون الإيجارات الجديد.. والذى تحدد لتنفيذه شهر أكتوبر 1997 . كانت فترة السماح – بين تاريخ إصداره وتنفيذه- فرصة مناسبة ومتاحة لنشاط حقيقى لذلك الاتحاد فى صفوف الفلاحين خصوصا المستأجرين منهم إلا أنه- ولأسباب سنعود إليها لاحقا فى هذا المقال- لم يقم به على المستوى المناسب لخلق مقاومة منظمة لذلك القانون، وأسفر الوضع عن حالة من التراخى أفضت إلى تبديد فرصة الخمس سنوات فى أعمال أغلبها احتفالية وإعلامية مظهرية المضمون وغير عملية.. كانت نتيجتها لجوء آلاف الفلاحين إلى مقر الاتحاد بحزب اليسار الشرعى  (التجمع) بالقاهرة فى أكتوبر 97.. سعيا لطلب النجدة من اتحاد يحمل اسمهم وأملا فى وقف تنفيذ القانون.. إلا ان الاتحاد والحزب الذى يستضيفهم لم يكن لديهما أية حلول عملية حقيقية .. وعاد يومها الفلاحون إلى قراهم منكسى الرؤوس خائبى الرجاء محبطين .. وأصبح هذا اليوم  مأتما للمستأجرين من الفلاحين فى فقيدهم

 اتحاد الفلاحين )الذى انهار فجأة أمام عيونهم كأى بناية خائرة الجدران)

 الوعى جنين التنظيم: 

ح
ديثنا عن التظيم يدفعنا للحديث عن الوعى الذى هو مضمون التنظيم ومحتواه ودفته الموجهة، لأن كثيرا من الأوهام والمفاهيم  المغلوطة تفترس تقديراتنا عن مقولة التنظيم وعن النشاط الذى يقوم به أو نقوم به من خلاله.
 فأى شكل لا بد له من مضمون ، وفى النشاط العملى – سياسيا كان أم نقابيا أم جماهيريا- لكى يكون مثمرا لابد من ماعون يحتويه و يديره ويطوره ويقوّم سلبياته.. نسميه التنظيم.. وقبل ذلك لا بد له من مهمة محددة يسهر على تحقيقها . وهذا المضمون يتكون من عناصر ثلاث هى ( المصلحة، والفهم ، والإرادة ) ، ويشترط فيه: 

 ·        أن يلبى مصلحة الجمهور الذى يعمل ذلك التنظيم من أجله. 

·   وأن يلم من حيث الفهم بأبعاد المهمة الساعى لتحقيقها من حيث( جوهرها – مقدماتها- تفاصيلها – طرق وأدوات الوصول لها..  بل والاحتمالات المتوقعة للنتائج التى يمكن الوصول إليها فى مختلف ظروف النشاط. ) 

·   وأن يوفر الإرادة اللازمة لتحقيقها.. التى هى بمثابة القوة المعنوية التى تدفع أصحابها نحو تحقيقها وتتولد تلك الإرادة من الفهم.. وتتجه بالطبع لتحقيق المصلحة.ويمكن إجمال كل هذه التفاصيل فى عبارة واحدة هى الوعى.. الذى إن غاب عن أى شكل تنظيمى إنهار ذلك الشكل لأنه يصبح بلا مضمون . 

·   وبتطبيق ذلك على شبكة الجمعيات الزراعية بنوعيها ( الإصلاح والائتمان) التى تأسست فى أعقاب صدور قانون الإصلاح الزراعى الأول.. يتضح لنا أنها شكل فلاحى بمضمون حكومى إلى حد بعيد فقد كانت بالنسبة للفلاحين شكلا يجمعهم دون أن يحقق مطامحهم الحقيقية من حرية زراعة المحاصيل التى يختارونها وبالمساحات التى يحددونها وتحقيق أرباح مناسبة من بيع محاصيلهم بأسعار تكفل لهم حياة كريمة.. وتحولهم إلى قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية لها وزنها فى المجتمع. إن كل ما عاد على الفلاحين من شبكة الجمعيات السابق الإشارة إليها هو الحصول على مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة فقط .. علاوة على القروض منخفضة الفائدة. 

·   أما فى عصر السادات وما بعده فقد افتقد الفلاحون تلك الميزة الثمينة وأصبحت الجمعيات الزراعية شكلا فلاحيا بمضمون حكومى كامل.

 ·   ولذلك فإن ابتداع أية أشكال فلاحية جديدة- أوبديلة أو موازية للأشكال الحكومية- يتحدد استمرارها فى النشاط ونجاحها من عدمه على مضمونها أى (على إمكانية تحقيق المصلحة الخاصة بالفلاحين وعلى الفهم العميق للمهمة ولتصورها فى حلها وأساليبه ، وعلى قدرة ذلك الفهم فى خلق الإرادة الفلاحية التى تدفع أصحابها للإقدام على تحقيق مصلحتهم.)  أما إذا افتقدت ذلك المضمون الذى نجمله فى عبارة الوعى.. أو كان ذلك المضمون ضع
يفا أو شكليا تحولت تلك الأشكال لهياكل صدئة أو خاوية لا حياة فيها مهما كان صخبها.. لأن  مظاهر الحركة حينئذ فيها تكون خدّاعة.. ومن ثم لا تصمد أمام أى اختبار جدى أو أية محنة تلم بأعضائها أو بالمنتسبين لها أو بمن تعمل أو تدعى الدفاع عنهم.. وهذا ما حدث بالضبط لاتحاد الفلاحين المصريين الملحق بحزب اليسار الشرعى ( التجمع) إبان أزمة قانون العلاقة بين المالك والمستأجر96/1992 ( الإيجارات الزراعية الأخير) فى أكتوبر 1997.

 وبمزيد من التفصيل..  

إذا افتقدت الأشكال الفلاحية لمضمونها.. فذلك يعنى أن المصلحة غائبة أو غير واضحة، و/أو أن الفهم العميق للقضية محل الصراع ..( الإيجارات الزراعية آنذاك) ولتصورها ودورها فى حلها ولطرق تحقيقه غائب أو مشوش أو مغلوط أو مظهرى، وبالتالى تكون الإرادة الفلاحية خامدة أو واهنة تبعا لضعف عنصر الفهم والمصلحة. 

حديث مفصل عن الوعى ( جوهر التنظيمات الفلاحية ) : 

لو افترضنا وجود شكل أو لجنة تسعى للدفاع عن الأرض الزراعية وتساعد فى منع طرد  الفلاحين منها فإن ذلك يعنى أن الشكل أو اللجنة قد حددت مهمتها فى: 

1.    وجود مصلحة للفلاحين فى البقاء فى الأرض.

 2.  وضرورة الفهم العميق للأسباب التى وراء محاولة طردهم منها، وتحديد القوى المستفيدة من ذلك ( فى الخارج والداخل) وتحديد أساليبها فى تنفيذ عملية الطرد، ومن ثم اختيارالأدوات والطرق والأساليب والأسلحة التى تمكن الفلاحين من مقاومة ذلك.

  3.  نظرا لوجود المصلحة ، والفهم العميق لما تم ذكره فى البند (2) سوف تتولد تلقائيا لدى نسبة من الفلاحين الإرادة – أو القوة الدافعة للدفاع- عن أرضهم. وبالإنخراط رويدا رويدا فى المعارك تزداد نسبة الفلاحين المشاركين.. والفاهمين وتتعاظم إرادتهم.. وهكذا. 

مع العلم بأن وصول هذا الشكل الفلاحى إلى مستوى معين من الثقل المادى والمعنوى يمكن أن يعفى الفلاحين من المزيد من خوض المعارك دفاعا عن الأرض حيث يشعر العدو بوطأة تزايد ثقل الفلاحين المعنوى (من الـتأييد الشعبى لقضيتهم) والمادى ( بمزيد من انخراط أعداد جديدة فى المقاومة) مما يجبره على التراجع.. وربما التسليم بإرادة الفلاحين .. وهذا يعنى بداية تحقيق الانتصار فى إنجاز هذه المهمة.

 وعلى العكس من ذلك لو افترضنا أن الفلاحين المنخرطين فى ذلك الشكل أو اللجنة: 

– يرون أن الدولة أعطتهم الأرض فيما مضى ( ملكا أو استئجارا) وهى تستعيدها منهم الآن وهذا حقها.

 – أو أن طردهم منها قضاء وقدر.. وهذا قدَرُهم.  

    – أو لا يقتنعون بأن "الأرض لمن يزرعها ".

 – أو يرون أن قوانين الإصلاح الزراعى التى صادرت أراضى الإقطاعيين أو القوانين التى تحفظت علي أراضى الحراسة تتعارض مع