من دروس الثورة المصرية : انتهت البروفة.. وبات الإعداد للجولة الفاصلة .. قدرا لا مفر منه


بشير صقر
الحوار المتمدن – العدد: 3761 – 2012 / 6 / 17 – 09:31
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية

تمهيد :

ونحن فى عشية تسمية رئيس الدولة القادم ..وعلى مشارف مرحلة سياسية جديدة .. يمكن القول بيقين: ” انتهت بروفة الثورة دون انتصارها.. لكن بحصاد وفير من الإنجازات والدروس والخبرات ؛ وبات الإعداد للجولة الفاصلة – أيا كان موعدها – قدرا لا مفر منه “.

فالعسكر سيدشنون جمهوريتهم  الجديدة فى بحر أيام معدودة ؛ تلك الجمهورية – التى صنعها سلوك العسكر وجماعة الإخوان المسلمين وأخطاء الثوار وحداثة عهدهم بالسياسة – ستكون أشد وحشية من سابقتها التى بدأت فى 23 يوليو 1952 وهى ثمرة منطقية لعدم اكتمال ثورة الشعب التى تفجرت فى 25 يناير 2011  .

لقد تلقى الحلف المالك – الذى ضم كل حائزى ثروات الوطن الكبار – ونظامه السياسى الحاكم ضربة موجعة من الشعب زلزلت أركانه وروعت أنصاره ومريديه وهزت ثقته بنفسه وهددت استمراره بشدة .. لكنها لم تقض عليه بل أيقظته – من حلم البقاء الأبدى – للمخاطر المحيطة به ونبهته للخطط والأدوات والوسائل الواجب استخدامها للدفاع عن وجوده .. ليكون أكثر شراسة من سابقه وأشد تعصبا.

الاستقطابات والدروس .. والمهمات القادمة :

كما أن الاستقطابات السياسية التى ظهرت فى الستة عشر شهرا الماضية حددت المعالم بين معسكر الثورة ومعسكر أعدائها ؛ وبلورت الدروس والعبر التى نطقت بمهام أصبح القيام بها فرضا من فروض الثورة والتنصل منها جريمة لا يمكن اغتفارها .

 وتجلى ذلك فى تمييز الشعب عموما بين من وقف إلى جانبه وبين من اتخذ موقفا معاديا منه ؛ كما تبلورت لديه بعض المفاهيم الأساسية التى كانت فى بداية الثورة أشبه بالضباب وأصبحت الآن واضحة جلية ؛ فأيقن الشعب أن النظام لا يقتصر على الرئيس  ومؤسسة الرئاسة ؛ بل يتجاوزهما إلى المؤسسات التنفيذية كجهاز الدولة وأجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية والإعلام ؛ والتشريعية كمجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية الشعبية ؛ والقضائية كالمحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها؛ وكذا منظومة الدستور والقوانين .. والسياسات والقرارات والإجراءات  ؛ فضلا عن رموز الحكم والسلطة والمال المحيطين بتلك المؤسسات والداعمين لها، ولم يتبق سوى تجذر معسكر الثورة لتعاد صياغته من جديد وتحويله من مجرد أفراد مبعثرين منفرطين إلى قوى اجتماعية وسياسية تعمل على شق طريقها وتوحيد إرادتها وصفوفها وتكافح من أجل مستقبلها بهمة وعزم.

وبذلك صار ” اللعب على المكشوف ” بين المعسكرين هو الطابع الأبرز للمرحلة القادمة.

من ناحية أخرى أعادت بروفة الثورة ” جولتها الأولى ” التنبيه لحكمة ثورية معروفة هى ( على كل قطاعات الشعب أن تتيقن أنه فى الثورة  لا حياة للمتقاعسين والمتفرجين والممسكين بالعصى من المنتصف ولا للمنتظرين لحلول تهبط من السماء أو يقدمها الآخرون ؛ بل ولا لمن لا يضحون فى سبيلها ) لأنه فى زمن الأزمات الثورية الكبرى ” لا توهب الحياة إلا لمن يطلب الموت “.

وبرغم تحدد الاستقطابات بين المعسكرين وما أمسك به الشعب من مكاسب انتزعها بنفسه مثل هدم جدار الخوف والتأكد من إمكانية تغيير ما اعتبره بالأمس مستحيلا وانقشاع الضباب عن كثير من الممارسات والمفاهيم السياسية ، واكتشافه لحقيقة كثير من الفصائل السياسية التى ترفع راية الإسلام ولأهدافها ومراميها وانتهازيتها وادعاءاتها ؛ ويقينه من مخاطر اختطافها للثورة والمآل الذى تجر إليه المجتمع جرا  وإصرارها على الانفراد بوضع الدستور والهيمنة على مقاليد الحكم وما يستتبعه ذلك من كوارث حقيقية.

 علاوة على تأكده من أن مجلس العسكر لم يحم الثورة بل حمى النظام من السقوط وتسببت إدارته للفترة الانتقالية فى تهريب سيول من أموال الشعب وانتشار البلطجة وافتقاد الأمن وتدهور الأوضاع الاقتصادية خصوصا فيما يتصل بالاحتياجات المعيشية للشعب والامتناع عن الاستجابة لأهداف الثورة  بل والعمل بعزم وإصرار ودأب على تصفيتها.

  تخبط النخب :

بالرغم من جنى الشعب لكل هذه المكاسب التى ما كان له أن يجنيها لولا اندلاع الثورة ومشاركته فيها ؛ فقد اختلف الأمر بالنسبة للنخب السياسية عموما وبالذات لمن تنتمى منها لمعسكر الثورة؛ فما زال التداخل والخلط قائما بين مختلف الميول السياسية التى لا يجوز الخلط بينها؛  والركون للمنطق القديم فى النشاط السياسى هو سيد الموقف سواء من حيث الأفكار أو المواقف والممارسات السياسية أو الحسابات الشخصية وهو ما يعوق بشدة تجذر معسكر الثورة ويفتح الباب واسعا أمام مزيد من التفكك والتخبط والفوضى ؛ لأن الفارق شاسع بين أن تكون عيوننا على المبادئ والسياسات التى تميز معسكر الثورة باعتبارهؤلاء جزءا منه عن معسكر وممثلى الثورة المضادة وبين أن تكون عيوننا على تجميع الأنصار والأصوات والحسابات الشخصية .

ولم تتوقف دروس الثورة عند هذه الحدود بل تجاوزتها بتوجيه رسائل غير مباشرة إلى القوى السياسية  القديمة بأنه بات عليها أن تدرك أن الشعب لفظها وأدار ظهره لها ؛ لأنها بنْتُ نظامٍ مستبد فاسد  ثار الشعب عليه – واقتصر دورها فيه على معارضة شكلية ودعم لتعدديته المزيفة – ولذا أصبح لزاما عليها أن تغادر المسرح نهائيا .

ملاحظات على الأحزاب الجديدة والنقابات والاتحادات المستقلة :

أما عن الأحزاب السياسية التى نشأت بعد 25 يناير 2011 فمن الواجب أن تدرك أن تشرذمها وطريقة بنائها وقوامها وفعاليتها تضع علامة استفهام كبيرة أمام قدرتها على الاستمرار والإنجاز؛ وأن مقتلها الحقيقى فى استغراقها فى أوساط النخب .. وبدون اندماجها فى صفوف فقراء الشعب لن تكون – فى أفضل الأحوال-  أكثر من حلقات دعائية ضعيفة الأثر.

كما أثبتت أحداث الثورة أن معظم النقابات والاتحادات والروابط والجمعيات الأهلية المستقلة التى تأسست بفعل رياح الثورة هى مؤسسات هشة وضعيفة الفعل حيث لم تسهم بدور حقيقى عملى أو سياسى أو دعائى يثبت أحقيتها فى أسمائها، بل إن ما انتزع منها بالكفاح والعرق قبل الثورة تم تخزينه أو تدجينه بعدها ؛ ليس هذا فحسب بل وارتكب بعض قادته سقطة سياسية ثقيلة بترشحهم على قوائم جماعة الإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية ( نوفمبر 2011 ) وهو ما صدم كثيرا من المتابعين لنشاط هذه النقابات فى مصداقية هؤلاء القادة ؛ وقد تكرر ذلك من بعض أعضاء الأحزاب السياسية فى نفس التوقيت وهو سلوك لا يمكن تفسيره إلا بكونه سلوكا ميكيافيلليا أخرق خصوصا وأن المسافة التى تفصل بين الحزب الذى دفع بسبعة من أعضائه للترشح وبين حزب الإخوان مسافة شاسعة على المستويين السياسى والتاريخى وهو خلط للأوراق غير مبرر وينم عن حالة من الهشاشة السياسية والانتهازية لا يمكن القبول بها بالمرة.

الثورة ليست مجرد انتفاض تلقائى :

ولأن الثورة – كما عاصرناها فى مصر- ليست مجرد انتفاض جماهيرى تلقائى لا تحكمه أفكار وسياسات ولا تضبطه تاكتيكات وقادة ولا يؤطره مجرد حماس؛ وجب علينا أولا أن نبحث عن مقوماتها وخططها وأدواتها لنضمن– على الأقل- مسارا واضحا لها يمكن السير فيه حتى نهايته أو التوقف عند نقط محددة فيه لنستكمل نواقصنا ونسد ثغراتنا ونضم صفوفنا ونقوى دفاعاتنا ثم نستأنف بعدها المسير ؛ بالذات وأن مركز تلك المقومات أو حجر الزاوية فيها هو تنظيم الشعب فى مؤسسات سياسية ونقابية واجتماعية  لا يمكن تشييدها دون الوعى بأهدافها ومهامها ودورها وكيفية بنائها.

زمان جديد :

من جانب آخر فقد ولى زمن الاعتماد على ( زعيم فرد وجماهير واسعة تدعمه ) مهما كانت التصريحات بدور الجماهيرالقائدة عالية الصوت.. وأصبحنا فى زمن الاعتماد على تنظيم الشعب الواعى فى أحزاب ومؤسسات سياسية ونقابية حقيقية؛ ليست شكلية ولا وهمية ولا أمية سياسيا؛ ذات برامج محددة تلبى مطالب الشعب من حقوق وحريات؛ و بمهام عاجلة تشرع فى إنجازها مع قادتها على الأرض ؛ ويا حبذا لو توازى ذلك أو أفضى إلى بروز زعيم حقيقى يسعى مع الشعب نحو آماله أكثر منه رمزا مجرداً للثورية ؛ فما صنع غاندى ونهرو ومانديلا وجيفارا وغيرهم هو المؤسسات السياسية التى شاركوا أو بادروا ببنائها ؟.. إلى جانب متانة معتقداتهم وجسارتهم وذكائهم ؛ وذلك هو الطريق الوحيد المضمون لتقدم الشعب على طريق الثورة بثقة وثبات.

ولأننا نتحدث عن ثورة سياسية طرفاها عدو مسلح وشعب أعزل فلا أوهام تحكمنا بشأن صراع مسلح بينهما .. بل إن ما يحكمنا هو عمل سلمى يشل قدرة العدو على الحكم بل وعلى القمع من خلال ما يمكن توفيره من مقومات وأدوات سياسية وحصاره ليشعر بحتمية رحيله اليوم قبل الغد.. أو بمعنى أدق بإجباره على الرحيل.

هل يمكن للثورة تغطية مساحة الوطن ..؟

وحيث تطرقنا لهذه النقطة فى مقال سابق نوجزها فى السطور التالية :

لأن المجتمع المصرى أشبه بدائرة تشغل مساحتَها كلُ قطاعات الشعب ، ولأن الثورة اندلعت فى مركز الدائرة ( المدن الكبرى ) ولأنها لم تنتشر وتتوسع لتشمل كل طوائف الشعب وقطاعاته ( فلاحين وعمال وصغار موظفين ومهنيين وعاطلين ومهمشين ) أى كل مساحة الوطن؛ بات لزاما علينا أن نقوم بذلك لهدفين :الأول هو انخراط أعداد أوسع من الجمهور فى الاحتجاجات لزيادة قوة الضغط على النظام الحاكم ؛ والثانى هو توسيع رقعة المواجهة معه  وإنهاكه وتبديد قواه .. وبعثرتها واستغلال نقاط ضعفه، ولكى يتم ذلك لابد أن تتكفل به عناصر مُلمّة بمشاكل كل فئة أو طائفة وبتصورات عملية لحلها ؛ وأن يتبنى ذلكَ الجزءُ الأعظم من أفرادها  ويكونوا مستعدين للحركة بشأنه والدفاع عنه ، وهو المهمة الجديرة بالإنجاز لأنها بمثابة عنق الزجاجة فى تأسيس المقاومة الشعبية ويُشكّل افتقادُها صعوبةً فى توسيع حدود الثورة وتعميق آثارها. كذلك فإن مسار الحركة من محيط الدائرة نحو مركزها يضيق الخناق على العدو بالتدريج ويجعل للانتصارات الصغيرة عليه آثارا مادية ومعنوية هائلة ؛ ويدرب الشعب على استخدام تاكتيكات متنوعة فى مواجهته ؛ وما يهمنا الإشارة إليه هو أن ذلك النشاط السياسى سوف يفرز تلقائيا عددا من  الوشائج والصلات تربط ما بين حركة تلك الفئات ومطالبها الصغيرة فى الأقاليم والريف وبين مطالب الشعب الكبرى فى الحقوق والحريات الأساسية.

بمعنى أن الجولة القادمة للثورة ستطرح مطالب أكثر تنوعا وعمقا يلتف حولها الشعب وستتبع تاكتيكات مختلفة عما طرحته فى الجولة الأولى فضلا عن تجنبها الأخطاء السابقة.

صلاحيات جديدة للعسكر تستعيد مناخ الطوارئ :

ورغم إنهاء العمل بقانون الطوارئ فى نهاية مايو 2012 إلا أن نظام العسكر أعاده فى 13 يونيو 2012 من الباب الخلفى بإصدار وزير العدل قرارا بتخويل المخابرات الحربية والشرطة العسكرية صلاحيات الضبطية القضائية فى التعامل مع المدنيين وهو ما يعدُّ انقلابا على وعوده التى قطعها على نفسه بشأن الحريات السياسية ومدخلا لمرحلة جديدة فى قمع الحريات واستئناف لتصفية الثورة التى ما زالت أسبابها قائمة  وهو ما يعنى ضرورة العمل الجاد  لمقاومة ذلك العبث بمقدرات الوطن.

 فهل سنثبت جدارتنا بالبقاء أحرارا فيه وباستئناف الثورة  ..؟ أم نتخلى عن دورنا الذى أعاد لنا الحياة ..؟

  السبت 16 يونيو 2012                                                           بشير صقر