ثورة جديدة ونداءات مريبة بالمصالحة

نجحت جماعة الأخوان المسلمين فى حصد كراهية الشعب المصرى والنخب السياسية والقوات المسلحة بمستوى لم يسبق له مثيل حتى فى العهود الملكية والجمهورية منذ تأسيس الجماعة عام 1928 ، فقد تشكلت تلك الكراهية كرد فعل مباشر وفائق السرعة لذلك الإحباط بعد أن كان قد منح الجماعة رئاسة الدولة فى يونيو 2012 وأغلبية فى البرلمان عام 2011.
كانت ثورة الثلاثين من يونيو 2013 صريحة وحاسمة فى الإصرار على إزاحة الجماعة من المسرح السياسى فى مصر؛ ولأن قطاعات واسعة من الجماهير تعرضت للإحباط بعد أن وضعت أملها فى تغيير أوضاعها المعيشية فى يد الجماعة وفوجئت بعكس ما تمنته.. وازاداد الوضع سوءا عما كان فى العهد السابق.
هذا وقد اختلفت هذه الثورة عن ثورة 25 يناير 2011 من حيث المقدمات والمسار والنتائج رغم كل السمات المشتركة بينهما ولذلك عارضتها الادارة الأمريكية رغم كل الشواهد التى تفقأ العيون وتخرس الألسنة على صراحتها ووضوحها واتساعها وشمولها لمعظم محافظات مصر فى الوقت الذى اقتصرت فيه ثورة 25 يناير على المدن الكبرى، كذلك فقد انفضحت الارتباطات الخفية والاتفاقات والوعود المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة الإخوان لصالح الصهاينة سواء فيما يتصل باتفاقية نهائية وشيكة بين اسرائيل والفلسطنيين أواتفاقات أخرى بين حماس والجماعة وإسرائيل بشأن تهجير جديد لجزء من الشعب الفلسطينى إلى القسم الشمالى من سيناء المصرية، أو بتحويل سيناء إلى إمارة إسلامية تتحكم فيها الجماعة -عن طريق الجهادين العرب الوافدين من أفغانستان وباكستان والعراق واليمن وغزة وغيرها- وتمثل احتياطيا أمنيا يتم توظيفه والاستعانة به فى تأديب الشعب المصرى إذا ما عارض سياساتها أو تمرد عليها.

الإعداد والحشد:
هذا وتمثلت بشائر رفض الشعب المصرى للجماعة وممارساتها فى الإقبال المتصاعد على التوقيع على استمارات تمرد (المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتعديل الدستور وتشكيل حكومة محايدة قوية تضم كفاءات وطنية وإجراء الانتخابات البرلمانية بعد إعداد قانون الانتخابات) وحيث غطت حركة جمع التوقيعات مساحات واسعة فى مصر(بالقاهرة والدلتا والصعيد) وبعضها من المصريين بالخارج فقد اهتزت فرائص مكتب إرشاد الجماعة وتجلت علاماته فى الشروع فى ترحيل أسرهم وأبنائهم إلى خارج البلاد منذ منتصف يونيو 2013.
استعد الشعب المصرى لليوم المنشود ورفع حرارة المشهد خطاب رئاسى متصلب وهابط ملئ بالأخطاء السياسية والقانونية والأخلاقية المتوقعة والمعتادة.
احتجت كل فئات الشعب المصرى فى حشد بلغ عشرات الملايين سجلته عدسات الاستخبارات والإعلام الدولى ووصفته بأنه أكبر حشد بشرى فى التاريخ الحديث وأسهم فى ذلك المشهد ما لجأت إليه الجماعة من تجمع هزيل مدفوع الأجر محمول بالشاحنات من المحافظات إلى أحد ميادين القاهرة (رابعة العدوية) كان بمثابة خلفية شديدة الوضوح على ضخامة الحشود الشعبية المعارضة فى ميادين القاهرة وفى معظم المحافظات، بل ولعب دورا كاشفا لسياسات التمييز والتحريض والحض على الكراهية واستخدام العنف وسفك الدماء التى تناولتها كلمات قادة الجماعة وحلفائها.
فى اليوم الثانى قام الجيش استنادا لخطورة الوضع واعتمادا على إحدى مواد الدستور بالنزول على رغبة الشعب و أصدربيانا أمهل فيه ممثل جماعة الاخوان فى الرئاسة ثمانية وأربعين ساعة لاتخاذ قرار، وكالعادة كان الرد خطابا متصلبا آخر يؤكد على دستورية حكمه وشرعية انتخابه.. باختصار صب الزيت على النار المشتعلة وتجاهل ما يدور فى الشوراع من إصرار على رحيله كما امتلأ الخطاب بإشارات وإيماءات- بعضها صريح- على مواجهة الاحتجاجات الشعبية بالقوة.
وهكذا كانت استجابة الجيش لأولى المطالب الشعبية بعزل الرئيس ونقل السلطة مؤقتا لرئيس المحكمة الدستورية.
كان رد فعل الجماعة وحلفائها معروفا ومتوقعا حيث شرعت فى رفع السلاح ضد التجمعات الجماهيرية الصغيرة فى عديد من المحافظات والاعتداء على أكمنة الشرطة وبعض أقسامها وبعض نقاط التفتيش والحراسة العسكرية وعدد من دواوين المحافظات سقط فيها عشرات الشهداء والقتلى، وتم الاستيلاء فى ذلك السياق على ديوان محافظة شمال سيناء ورفع صور الرئيس المعزول حتى تم تحريره فيما بعد بواسطة قوات الصاعقة.
لكن الأهم من ذلك هو دعوة الجماعة للتدخل الأمريكى العسكرى لاعادة الرئيس المعزول.. وهكذا لم تلب الولايات المتحدة الدعوة وإنما لبت جماهير الشعب نداء العودة للميادين وسط غضب شديد من الاعتداءات التى مارستها الجماعة وحلفاؤها ومن رد الفعل الأمريكى المنحاز والمحبذ لإعادة الاخوان لرئاسة الدولة.

دعوات مريبة للمصالحة:
لقد تعالت فى كل وسائل الاعلام؛ وفى لقاء الشباب وممثلى النخب السياسية والسلفيين وشيخ الازهر وبابا الكنيسة بقادة الجيش دعوة للمصالحة الوطنية.. وأخرى لشباب الإخوان للعمل السياسى السلمى بشكل شديد الغرابة يتجاهل ما يجرى على الأرض ويغمض العين عن معطيات بالغة الأهمية ويتجاهل ما تشير إليه الدلائل من احتمالات شديدة الخطر.
فما حدث فى 30 يونيو 2013 قد أفشل مخططات دولية أمريكية الإعداد والصناعة وأخرى إقليمية وثالثة محلية تتصل بالقضية الفلسطينية واستقلال شبه جزيرة سيناء وتفكيك الدولة المصرية وإعلان إمارات إسلامية فى غزة وسيناء ودولة دينية فى مصر.. يعكسه اللغط الشائع فى الدوائر السياسة الدولية والتضارب فى التقدير بين المؤسسات المختلفة فى الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوربى، وتفصح عنه وتفضحه جملة ممارسات وتصريحات جماعة الأخوان وحلفاؤها، وكذا تردد فصائل الإسلام السياسى فى مصر.
ومن ناحية أخرى فقد أسالت الثورة لعاب كثير من فلول الحزب الوطنى فى إمكانية إن لم يكن قنص الثورة- كما فعل الإسلاميون فى ثورة 25 يناير 2011 – فعلى الأقل الحصول على نصيب وافر فى الغنائم التى توفرها إزاحة جماعة الإخوان من على دست الحكم.. وهو ما يمثل أحد المخاطر الآنية على الثورة.
وعليه فما تحتاج له الثورة هو إزاحة جملة العراقيل من طريقها لاستئناف البناء.. بمعنى أنها تحتاج إلى التطهير الآن قبل احتياجها للأموال.
فجهاز الدولة مازال يعج بعشرات الآلاف من الفلول وبالآلاف من أعضاء الجماعة .. فقاتلو شهداء 25 يناير لازالوا طلقاء وكثير من شبابها قيد السجون وقادة جماعة الإخوان وخلفائها مختفون وكثير من الأسلحة والعتاد مخبأ فى المقابر والمزارع والأبنية فى الأقاليم وإرهاصات الفتنة الطائفية والسعى إليها ماثل أمامنا فى المنيا والاقصر والعريش وأسراب البلطجية يعرضون خدماتهم لمن يدفع أو لمن يدفع أكثر. والولايات المتحدة تماطل وتتلاعب وتراوغ، وإسرائيل تمضغ حنقها بأسنانها وتندب حظها على الإطاحة بعميلين استراتيجيين لها فى أقل من ثلاث سنوات وتراقب الوضع، والشعب المصرى يعانى من الجوع والبطالة والمرض.
لذا علينا أن نعمل عقولنا ونتعلم من التاريخ وندرك أن تكرار ترديد شعار المصالحة يشعرهم بأن لهم حقا تم سلبه منهم بل ويدفعهم لمزيد من التشدد والتصلب.
إن أموال الجماعة هى إحدى مقومات نشاطها الإجرامى طوال تاريخها؛ ولذلك فمصادرة تلك الأموال تمثل ضربة قاصمة لها تماثل مصادرة أراضى الاقطاعيين بقانون الإصلاح الزراعى فى الخمسينات، واستغلالها فى دعم الاقتصاد القومى الذى يحتاج إلى جهود مضنية ليستعيد عافيتة هو أحد الحلول المطروحة للأزمة الراهنة.
لقد قامت حركة الجيش فى يوليه 1952 بعزل رموز الرجعية فى العهد الملكى وعزل الإقطاعيين وأمثالهم لتمهيد الطريق لبناء الاقتصاد وتسليح الجيش وتشييد السد العالى… إلخ وهو مايعنى أن عملية التطهير شرط ضرورى لتنمية سياسية وإقتصادية وثقافية وإجتماعية آمنة وعاجلة.
خلاصة القول لا مصالحة دون تطهير، ولا بناء دون أياد ثابتة قادرة، وقلوب مطمئنة، وعقول حازمة واعية غير ساذجة ودون حماية لظهرها.. وقبل هذا وذاك دون دلائل ومؤشرات عملية تحيى الأمل فى استرداد الوطن واستعادة استقلاله.

الجمعة 5 يونيو 2013 بشير صقر