مقدمة عن الملف القانونى لأراضى فلاحى المعمورة بهيئتى الأوقاف والإصلاح الزراعى .. الحلقة الثانية

ملاحظة :

كان من المفترض أن نخصص هذه الحلقة ( الثانية ) من دراستنا.. لقراءة فى الملف القانونى لأراضى فلاحى المعمورة؛ إلا أننا وجدنا ضرورة للإشارة أولا عن البدايات الأولى للتطورات السياسية التى جرت داخل مجلس قيادة ثورة يوليو1952 الذى أصدر قانون الإصلاح الزراعى فى 9 سبتمبر 52 ونفذه بجهاز الدولة القديم .. وكذلك داخل المجتمع المصرى والدوائر السياسية التى كانت تحيط الرئيس الأسبق ( السادات ) لإبراز الجو السياسى والملابسات التى ساهمت فى اتخاذ رأس الدولة مسارا مغايرا لما كان يجرى فى الفترة الناصرية ( 1952 – 1970 ) ، ونظرا لطول المقال رأينا تجزئته إلى ثلاث حلقات.. نستهلها بهذه المقدمة.

مقدمة لابد منها :

تتلخص عقدة أراضى فلاحى المعمورة بشرق الإسكندرية فى الموقف الذى كان يتخذه الرئيس الأسبق أنور السادات من الفلاحين والفقراء عموما.
ولأن ما يحكم مصر منذ أكثر من ستين عاما هو مؤسسة رئاسة الجمهورية التى تدور كل أجهزة الدولة فى فلكها. فقد كان موقف الرئيس من فئات الشعب على الدوام هو المصدر الأساسى لكل الإجراءات التنفيذية والتشريعات والقوانين وبالتالى الأحكام القضائية وإلا ما تمكن السادات من السير على خطى عبد الناصر ” بالأستيكة ” ليسد كل الطرق التى كان يمكن أن يتخذها الشعب نحو حياة أساسها الحرية والعدالة والتقدم والرخاء.

صحيح أن الرئيس ليس مطلق الإرادة ولا يتصرف فى فراغ وهو محكوم بما يسمى ميزان القوى الطبقية فى المجتمع ولابد لقراراته أن تلبى ميولا محددة لمحصلة القوى الاجتماعية والسياسية فى المجتمع أو تكون تعبيرا عن مصالح محددة لفئات بعينها، واستنادا إلى أيهما يميل الرئيس.. تتحدد قدرته على الاستمرار فى الحكم ، ولذلك تلعب طريقة الحكم أو ما نسميه بالنظام السياسى دورا بالغ الأهمية فى ذلك. ولقد كان النظام الرئاسى الحاكم فى مصر منذ بداية الخمسينات يعطى صلاحيات هائلة لرأس الدولة تمكنه من فرض تقديراته وتنفيذها حتى ولو كانت لا تحظى برضى وقبول الأغلبية الشعبية أو أغلبية الموجودين فى دوائر الحكم.

من هنا كانت ميول السادات تجد طريقها للتنفيذ وتوجيه دفة الحكم استنادا إلى خليط من ارتباطاته وخبراته وثقافته وبواعثه الدفينة التى يطلقها موقعه فى الحكم من عقالها.

هذا وقد ساهم مناخ هزيمة 1967 فى إضعاف الميول الوطنية المعادية للغرب الاستعمارى وإسرائيل وكذا الميول المناصرة للفقراء فى المجتمع وداخل الدوائر السياسية الحاكمة فى مقابل بروز الميول الرجعية المهادنة للغرب الداعم للكيان الصهيونى وكذا الميول المساندة للطبقات العليا فى المجتمع خصوصا ملاك الأرض الزراعية السابقين ( الإقطاعيين ) وكبار الرأسماليين بالذات من طبقت عليهم قوانين مصادرة الممتلكات.

كما لعب الصراع بعد وفاة عبد الناصر بين السادات وبين من يسموا ” رجال عبد الناصر فى السلطة ” – ( على صبرى وشعراوى جمعة والفريق محمد فوزى وسامى شرف وضياء الدين داود ومحمد فايق وغيرهم ) وحسمه لصالح السادات – لعب دورا فى التعجيل بذلك المسار الجديد – وليس فى خلقه – بالانحياز للغرب الأمريكى والأوربى والابتعاد عن المعسكر الاشتراكى على المستوى الخارجى ؛ أما على المستوى الداخلى فقد خفتت حدة الحديث عن الفقراء والتنمية والتصنيع والثقافة وغيرها والاهتمام بها .. وعلت نبرة أخرى عن ضحايا الناصرية من الإقطاعيين والرأسماليين والإخوان المسلمين والتعاطف معهم.. ولعل بعض من عايشوا تلك الفترة يتذكر ما روّجه الإخوان المسلمون عن أن علاقتنا بالروس ” الكفرة ” هى التى أفضت لخسارة الحرب مع الصهاينة وترديد أجزاء من قطاعات المجتمع لتلك المقولة.

كذلك تجلت تلك النبرة وتأثيراتها عام 1968 فى محاكمة قتلة صلاح حسين زعيم فلاحى كمشيش والتى تحولت من قضية سياسية إلى جنائية رغم نظرها أمام محكمة أمن الدولة العليا حيث انتهت بمعاقبة القاتل وتبرئة الأسرة الإقطاعية بعد أن كانت كل التفاصيل التى كشفها الإعلام عام 1966 فى أعقاب الحادث تشير إلى تلك الصلة ( بين الاغتيال والتحريض عليه أو بين القاتل والأسرة الإقطاعية).

ما نريد توضيحه أن الرئيس فى مصر هو كل شئ وإرادته هى المتحكمة فى توجهات الدولة وفى حصول الشعب على حقوقه وحرياته الأساسية أو حرمانه منها.
هذا وقد أنشئت هيئة الأوقاف بالقانون ( رقم 80 لسنة 1971 ) – وكانت مجرد إدارة فى وزارة الأوقاف – فى نفس العام الذى تولى فيه السادات حكم مصر رغم أن الاحتياج إليها لم يكن من هموم الوطن آنذاك ؛ فالمناخ السياسى كان شيئا مختلفا تماما عما يدور فى الدهاليز .. حيث الاستعداد لاستعادة الأرض المحتلة يجرى على قدم وساق ويستحوذ على كل الاهتمام وصخب طلاب الجامعات اعوام 72 ، 73 فى هذا الموضوع يصك الأسماع فى كل أرجاء مصر.

كذلك فبعدها وقبل شهور معدودة من حرب أكتوبر أصدر السادات القانون 42 لسنة 1973 الذى ردّ ( وقف الخديوى إسماعيل سابقا ) من الأراضى الزراعية إلى هيئة الأوقاف بعد أن كان عبد الناصر قد نقله من الأوقاف إلى هيئة الإصلاح الزراعى عام 1957 ، 1966 بالقانونين 152 ، 44 فى مقابل دفع ثمنها للأوقاف بسندات سنوية.

ورغم أن قانون السادت المذكور( 42 / 1973 ) قد نص صراحة على استثناء نفس الأرض من الرد إلا أن الطريقة التى أعيدت بها للأوقاف- بواسطة هيئة الإصلاح الزراعى تثير الشكوك والريب فى الأغراض الحقيقية وراء إصدار القانون ولا يمكن تسميتها إلا بالتواطؤ الصريح مع سبق الإصرار .. ودليلنا على ذلك هو أن لهيئة الإصلاح قطاع قضائى كامل اسمه ” اللجان القضائية ” وهو مجموعة من الدوائر القضائية زاخرة بخبرات متميزة من القضاة ، علاوة على قطاع آخر قانونى بنفس المستوى من العلم والخبرة .. ومع ذلك تم رد الأرض للأوقاف دون تمييز بين ما تم توزيعه منها على الفلاحين وبين ما لم يتم.

فهل لم يتنبه قاض واحد أو قانونى واحد فى هذين القطاعين لأن رد الأراضى التى تم توزيعها على الفلاحين المنتظمين فى دفع أقساط تمليكها يخالف القانون الذين هم بصدد تطبيقه على أراض تملكها الهيئة التى يعملون بها وهى هيئة الإصلاح ..؟

هذا هو السؤال الأهم الذى لا يمكن تجاهله.. ولا يمكن وصفه من أى منصف أو أى طالب قانون مبتدئ إلا بأن ما تم بنقل الأرض دون تمييز ليس سوى ( تواطؤ مبطن بسوء النية) فى أكثر العبارات تهذبا .

هذا هو مربط الفرس فى قصة أرض ” الأوقاف سابقا ” ” و ” الإصلاح آنذاك ” بالمعمورة ، ومن هذا ” المربط ” نشأت كل المشاكل والخروقات التالية وفاحت كل الروائح الكريهة والمخالفات الفجة والاغتيالات الوحشية .. وتعقد الوضع.

ولنضرب لذلك مثلا أشد صراحة ووضوحا :

تقول المادة 90 من قانون الزراعة رقم 30 لسنة 1966 ” بأنْ تُسجل الحيازات الزراعية فى الجمعيات التعاونية الزراعية بنوعيها ( ائتمان ، وإصلاح ) باسم زارع الأرض الفعلى .. مستأجرا كان أو مالكا أو واضع يد ” ، وذلك لأن الجمعيات الزراعية تؤدى خدماتها للأرض وليس للأشخاص.. وعليه لا يستفيد من خدماتها إلا من يقوم بزراعة الأرض فعلا .. وليس من يملكها مثلا.

لكن وبكل أسف عندما صدر قانون الإيجارات الزراعية الجديد – ( رقم 96 لسنة 1992) الذى بدأ تنفيذه الفعلى فى نوفمبر 1997 – خرق كل وزراء الزراعة – منذ ذلك التاريخ ودون استثناء- هذه المادة بواسطة القرارات الوزارية والتعليمات الشفهية وصار تسجيل حيازة الأرض الزراعية فى الجمعيات التعاونية الزراعية ليس لزارع الأرض .. بل لمالكها .. بمعنى أن يتحكم المالك فى المستأجر عن طريق تحكمه فى صرف مستلزمات الزراعة من بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف وآلات زراعية وغيرها .

ولقد كان رفع دعوى قضائية ضد هذه التعليمات الشفهية والقرارات الوزارية التى تخرق المادة 90 من القانون 30 / 1966 وتبطل مفعولها عمليا كفيل بالحصول على حكم قضائى بوقفها من أول جلسة.. لتكون الدعوى التالية ضد وزير الزراعة مستهدفة اتهامه بالامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء.

وهذا المثال يوضح كيف تم عمليا خرق القانون من أهم مسئول عن الزراعة فى مصر وهذا ما فاقم الشكوك وأثار السؤال التالى :

طالما كانت هذه إرادة الدولة ممثلة فىى وزارة الزراعة فلماذا لم تقم من خلال مجلس الشعب بتغيير المادة 90 لتتطابق مع تعليمات الدولة وما تريده الوزارة فى تعليماتها الشفهية وقراراتها الوزارية بدلا من اللجوء للسراديب الخلفية..؟

والإجابة فى غاية البساطة: إن إثارة هذا الموضوع فى البرلمان يعنى تداوله فى الإعلام وفى الأوساط المهتمة بالفلاحين والزراعة ويعنى كشف السراديب الخلفية التى يلجأ لها المسئولون الحكوميون لخرق القانون وهو ما قد يكشف الأغراض المستورة من هذا الخرق ويمكن أن يسفر عن نتائج عكسية وهى رفض تعديل المادة 90 سواء كان ذلك بتأثير الإعلام او بضغوط المستأجرين للأراضى الزراعية. فالتواء الدولة والتفافها حول تنفيذ المادة 90 من قانون الزراعة فى عهد مبارك تم بنفس الطريقة تقريبا التى طُبق بها القانون 42 لسنة 1973 برد ” أراضى الخديوى اسماعيل سابقا ” لهيئة الأوقاف فى عهد السادات. أى أنْ يقول القانون شيئا وينفذ المسئولون الحكوميون عكسه تماما ؛ وبهذه الطريقة تواطأت هيئة الإصلاح الزراعى- فى رأيى – (بتعليمات عليا ) على رد الأراضى الزراعية المملكة للفلاحين من ” وقف الخديوى اسماعيل سابقا ” إلى هيئة الأوقاف التى أسسها السادات فور توليه عرش مصر .

– شئ آخر يؤكد ما نقوله بشأن الخطيئة الأولى للسادات فى حق الفلاحين الفقراء هو صدور قرار رفع الحراسة رقم 69 لسنة 1974 الذى ساهم فى إعادة أراضى الحراسة ( وهى جزء من أراضى الإصلاح الزراعى) بأساليب ملتوية وألاعيب قانونية للإقطاعيين الذين تحفظت الدولة علي أراضيهم وأجرتها – ولم تملّكها- لفقراء الفلاحين.

– وتأكيد آخر لما نقوله بشأن إعادة أراضى الإصلاح الزراعى للٌإقطاعيين السابقين: فقد عين السادات أحد كبار الإقطاعيين مستشارا لرئيس هيئة الإصلاح الزراعى وكان تأثيره فى اتخاذ الهيئة لقراراتها بشأن أراضى الإصلاح الزراعى أقوى من رئيس الهيئة ، وفى تلك الفترة تم العبث بكثير من المستندات التى تخص أراضى الإصلاح بنوعيها ( الحراسة والاستيلاء )، وبالتعليمات الشفهية إياها والألاعيب القانونية وإخفاء أوراق ومحاضر مصادرة الأرض وتوزيعها وكان يتم خرق كثير من القواعد واللوائح التى تثبت حقوق الفلاحين وتدحض ادعاءات خصومهم.

وقد يسأل البعض ولماذا لم يعين السادات ذلك الإقطاعى الكبير رئيسا لهيئة الإصلاح الزرعى .؟..
ونجيب : ان ذلك سوف يفجر الأوضاع فى الريف ضده وضد السادات ويكشف ما يحاولان ستره ؛ واول الاعتراضات التى كانت ستظهر وتفضح موقف رئيس الجمهورية من فلاحي الإصلاح الزراعى هو : وكيف يعين السادات إقطاعيا رئيسا لهيئة صادرت وتحفظت على أراضى الإقطاع ..بل وعلى أراضيه شخصيا ؟ أو كيف ” يعطى القط مفتاح الكرار..؟ ”

– أما عن البواعث الدفينة فى موقف السادات من فقراء الفلاحين وقانون الإصلاح الزراعى فتفسرها الواقعة التالية التى جرت تفاصيلها من ستين عاما:

فى عام 1954وبعد صدور قانون الإصلاح الزراعى الأول وقبل الشروع فى تنفيذه العملى ذهب القائمقام ( العقيد ) أنور السادات إلى قرية كمشيش بالمنوفية موفدا من مجلس قيادة ثورة يوليو 52 لاستطلاع ومعالجة الأوضاع بها إثر اندلاع معارك ضارية بين فلاحي القرية وإقطاعييها . وما أن حط الرحال بها توجه إلى قصر الإقطاعى وأرسل فى استدعاء عدد من قادة الفلاحين بها ؛ إلا أنهم أخطروا رسول السادات بأنهم لن يذهبوا إلى قصر الإقطاعى .. وما على السادات إلا اختيار أى مكان آخر للقائهم .
وعاد الرسول بالرد الذى أذهل السادات عضو مجلس قيادة ثورة يوليو الوليدة .. فأمر على الفور بنصب خيمة فى مكان فسيح بالقرية وأعاد استدعاءهم.. ولما توافد الفلاحون المطلوبون .. أبقاهم خارجها وطلب إدخالهم واحدا بعد الآخر.. ووجه سؤالا واحدا لكل منهم: ماهى مشكلتك ..؟ ومن الناحية الأخرى كانت الإجابة واحدة : أنا ما عنديش مشكلة شخصية .. المشكلة خاصة بما يفعله الإقطاع فى القرية . وما أن يتطرق الفلاح للتفاصيل حتى يأمره السادات : خلاص .. خلاص .. أخرج بره .. وانتظر.
وهكذا تكرر السؤال والإجابة والخروج من الخيمة والانتظار خارجها حتى انتهى السادات من مقابلة جميع من حضروا إليه من الفلاحين وكانوا قرابة العشرين فردا.
خلاصة الأمر أن السادات سمع ردودا لم يتوقعها ورأى فلاحين غير الذين كان يعرفهم فى قريته أيام صباه .
ولماخرج من الخيمة أشار لأحد كبار رجال الشرطة ممن رافقوه من مديرية أمن المنوفية إلى كمشيش .. وطلب منه زجهم فى إحدى شاحنات الشرطة .. وإيداعهم معتقل قنا الذى ظلوا به لعشرين شهرا دون سبب قانونى أو محاكمة.
وللقارئ أن يتخيل مقابلة بهذه الكيفية بين فلاحى قرية وبين عضو مجلس قيادة ثورة أصدرت بعد 47 يوما من اندلاعها قانونا للإصلاح الزراعى يعيد لقطاع كبير من الفلاحين كرامتهم ويفتح لهم منفذا للحياة التى حُرم منها الملايين بعد أن طحنتهم السخرة وسياط الإقطاع عشرات السنين.
وكيف أن مسلك السادات فيما بعد وسياساته التى أجهزت على الجانب الأعظم من مكتسبات الفترة الناصرية يمكن معرفة دوافعها وأبعادها من هذه الواقعة الشهيرة والتى ما زالت ماثلة حتى الآن فى وجدان تلك القرية .. كمشيش .

وهكذا كان للسادات الجانب الأوفر ليس فى القضاء على ما أنجزه عبد الناصر من إيجابيات فحسب بل وفى التأسيس لدولة الاستبداد والفساد وإهدار مستقبل وكرامة الفقراء من الفلاحين وغيرهم .. وتابعها من بعده مبارك بالرعاية والحماية حتى قطف ثمارها مع المحيطين به من رجال الأعمال والمستثمرين والفاسدين وملاك الأراضى الذين تربطهم بسلفه معزة خاصة متبادلة..

باختصار لقد أعاد الإقطاع لمصر فى ثوب جديد.

الجمعة 20 مايو 2014 بشير صقر
لجنة التضامن الفلاحى – مصر

فى الحلقة القادمة :
كيف مهد السادات الأرض للارتداد عن السياسات الناصرية.. فى مجال الزراعة والفلاحين؟
وأساليب هيئة الأوقاف فى اغتصاب أرض الإصلاح الزراعى بالمعمورة