مقدمة كتاب العم عطية الصيرفى (سيرة عامل مهمش)

                                     تقديـــــــم
                                        ـــــ

"كان الوجود الفعال للطبقة العاملة هو العمود الفقرى للوطنية المصرية، وكانت النقابات العمالية المصرية تقوم على الديمقراطية والتعددية لذلك كانت مدرستى التى تعلمت فيها.. وعلمتنى الحياة."
بهاتين العبارتين بدأ العم عطية الصيرفى الجزء الأول من سيرته الذاتية عن الحقبة التاريخية (1926-1954) مضيفا إليهما إهداءه لأمه الأسطى هانم التى نفخت فى شخصه من روحها وصبرها وصمودها ولوالده الذى لم يره إلا بعيون الطفولة المبكرة.
بداية مزجت سيرته الكفاحية بمسار طبقته التى تعلم فيها مع سيرته الشخصية التى مثلت فيها أمه الحضن الدافئ الذى جعل منه إنسانا راقيا متمسكا بقيم مجتمعه العظيمة.. فى الوفاء.. والمثابرة.. والإيثار.
• وتعرض السيرة تفاصيل حياة عامل من القلائل الذين مزجوا المعرفة بالعمل.. وكان حسه الطبقى هو دفته الساسية التى وجهته فى طريق دام إثنين وثمانين عاما.. ولم يزل .. فلم ييأس لحظة.. ولم يهادن مرة حتى مع ما يكتنف كفاح أى مناضل من أخطاء اعتيادية لم تلون أو تخدش نصاعة تاريخه العظيم.
• هذا وعلى غير الكثيرين ممن يكتبون سيرهم الذاتية.. كان شديد الصراحة، متناولا وقائع التاريخ التى عايشها برؤيته إبان حدوثها.. معترفا رغم ثراء سيرته بفقره الثقافى والعلمى فى بساطة نادرة يحسده عليها كثير من مشاهير زمنه العظام.. ومؤكدا على أفكاره التى خلَّقها واكتسبها.. ثم طورها.. حتى صارت آراء وتقديرات.. ثم قناعات ثابتة.
• بدأ سيرته بالعبارتين السالفتين اللتين تمثلان خلاصة سيرته فى تكثيف بليغ.. عميق مفاده [أن الوجود الفعال للطبقة العاملة كان العمود الفقرى للوطنية المصرية.. أى للكفاح الوطنى المصرى، وأن النقابات العمالية المصرية التى قامت على الديمقراطية والتعددية كانت مدرسته التى تعلم فيها وعلمته الحياة.]
• ويُفَصّل ذلك بحجم الإضرابات العمالية والمطلبية التى سبقت ثورة 1919 بأكثر من عام.. وسبقت ثورة يوليو 1952 خلال الأربعينيات وبداية الخمسينات من القرن الماضى.. ويشير فيها إلى مظاهرة المليون التى شاركت فيها أغلب الأحزاب السياسية.. وتقدمها مصطفى النحاس زعيم الأمة وحزب الوفد آنذاك والتى مثلت احتجاجا من شباب مصر وتحية لمن استشهد منهم فى معارك المقاومة المسلحة ضد الإحتلال البريطانى بمنطقة قناة السويس.
• ويؤكد فى نفس السياق إن إضراب عام 1950 التضامنى الذى كان إضرابا عماليا قوميا نظمه اتحاد نقابات عمال النقل المشترك بمصر (نقل الركاب) لدعم إضراب عمال شركته التى كان يعمل بها فى زفتى وميت غمر  (شركة الفخرانى للنقل المشترك) والذى استمر قرابة نصف يوم للمطالبة بالعلاوة الدورية والسنوية ووصفه بأنه أول إضراب عمالى قومى تضامنى منذ عام 1924.. وقد ساهم فى تحقيق الأهداف المطلبية لعمال شركته.
• ولا ينسى أن يبرهن لنا على أن الطبقة العاملة كانت العمود الفقرى للوطنية المصرية.. ذاكرا التجليات العملية للوحدة العمالية عام 1882 إبان مواجهة الشعب المصرى للغزو البريطانى لمصر فى معركة كفر الدوار والتى أسفرت عن تفوق وانتصار الجيش العرابى المدعوم بهذه الوحدة العمالية على جيش بريطانيا العظمى وذلك قبل أن يتم استدراجه إلى صحراء التل الكبير حيث تضافرت عليه عوامل الشر و تكالبت.
• أما عن الجانب الآخر فى تكوين شخصيته.. فقد تناوله بكثير من التفصيل منذ معاناة أمه الأسطى هانم لسنوات فى سعيها للإنجاب.. وما سبقه من عملها صبية فى أحد مخابز ميت غمر.. وانتقالها كمتدربة إلى ورشة الأسطى وردة اليهودية خياطة مدينته المعروفة حتى أتقنت المهنة.. وزواجها من أحد أبناء قرية مجاورة لفترة قصيرة.. وطلاقها.. حتى تزوجت والده الأسطى على الصيرفى الطباخ مرورا بانتقال أسرته إلى القاهرة حيث اشتغل أبوه فى قصر أحد الوجهاء بحلوان وعملت أمه فى وظيفة (مقص دار) بمحلات عمر أفندى بوسط القاهرة لسنوات حتى عادت أدراجها لميت غمر مرة أخرى حيث أنجبته.
• ويتناول صاحب السيرة طفولته… حتى تتلمذ فى المعهد الأزهرى وفى إحدى المدارس وحفظ أغلب القرآن الكريم.
• وينتقل إلى معاناته من شظف العيش –حيث طارد المرض أمه- بعد أن كان طفلا سعيدا يعيش فى سعة ويسر لدرجه لجوئه للعمل مقرئا للقرآن على المقابر.. ثم عاملا بمصانع شركة المحلة الكبرى فعاملا زراعيا فى رش مبيدات الجراد، وعاملا لدى أحد المقاولين بمعسكرات الجيش الإنجليزى إبان الحرب العالمية الثانية، فمساعدا لعامل قبانى.. إلى أن وصل محطته الأخيرة كمساريا بشركة أوتوبيس الفخرانى لنقل الركاب بزفتى.. ثم مفتشا بها.
• وفى هذه الرحلة يتعرض لكيفية التقائه بالفكر الاشتراكى ومساهمته فى العمل العام وانتخابه عضوا فرئيسا للجنة النقابية بشركته. كما عرج العم عطية على بعض ملكاته فى كتابة الشعر والخطابة.. وكيف ساعده ذلك فى نشاطه النقابى وارتباطه بعامة الناس .
• كما تناول عملية اعتقاله فى مايو 1949 واتهامه بتلقى أموال من الشيوعية، وتعرضه لتشويه سمعته باتهامه باختلاس ثمن إحدى تذاكر الأوتوبيسالذى يعمل به، ثم فصله من عمله بشركة الفخرانى مرتين إحداهما قبل عام 1952 وأخرى بعدها.. وعودته لعمله بواسطة أحد قضاة ميت غمر.. وفشله فى المرة الثانية.. ثم التحاقه بالعمل بشركة أوتوبيس أخرى مع أحد أصدقائه ومعلميه شيخ سائقي شركته الأولى.
• ويهمنا أن نوضح أن السيرة يحكمه
ا خط درامى واضح –إن جاز التعبير- هو علاقته بأمه الأسطى هانم والتى اتصفت بخصال عديدة أهمها الذكاء والدأب، وميزها كرمها وشهامتها إزاء أهلها وأقاربها وجيرانها، ورغبتها المستميتة فى تعليمه وتربيته على قيم الصدق والأمانة والمروءة والتعاون والرغبة فى التعلم والمعرفة.. ورغم أنها لم تنجح فى تعليمه كما كانت تريد إلا أن مسار ابنها اللاحق أكد على هذه الحقيقة.. الرغبة فى المعرفة والتعلم.
• ولتأكيد ذلك تعرض السيرة لفهمه للقراءة وتشرب الخبرة ممن يملكونها فى المدينة والنقابة والعمل والحزب الذى انتمى إليه (حدتو) الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى.. وقبلها للجمهور الذى أحبه إلا أن تلك الثقافة لم تكن بلا ضفاف.. فكانت تجربته الشخصية ورؤاه النقدية إحدى هذه الضفاف بينما كان حسه الطبقى فى قراءته لأوضاع مجتمعه وطبقته العاملة هو الضفة الأخرى.
• ومن رؤاه السياسية ملاحظته السديدة عن تجاهل الأحزاب السياسية جميعها لعمال الزراعة والتراحيل.. وللفلاحين بعد ذلك.
• ورؤيته المعادية للطائفية سواء فى حديثة عن مسيحة بك قوسة الوفدى الذى ذكر أن المسيحيين تحولوا بعد ثورة 52 لمواطنين من الدرجة الثانية وأنه سيرحل عن ميت غمر تمهيدا لمغادرة مصر كلها، وزوجة زميله المسيحى فى العمل والنقابة التى سعت نقابته لعلاجها بالمستشفى القبطى أو ماسرده عن أصدقائه المسيحيين، و اليهود الذين انتقلوا من الإسكندرية إلى ميت غمر أو ملاحظته الذكية عن موقف النقراشى باشا باعتقاله اليهود المصريين اليساريين المعادين للصهيونية مما أتاح الفرصثة لتصاعد نشاط االصهاينة فى مصر، أو ما عرضه من ملاحظات ومشاهدات أمه فى علاقتها بزميلاتها اليهوديات فى محلات عمر أفندى حيث كانت تعمل.
• كذلك رؤيته للإرهاب وما ذكره بشأنه عن منظمة (السبع بنات خالات.. وصيفات القصر الملكى) التى كان حسين توفيق أحد أعضائها، ومنظمة الحرس الحديدى التى كانأنور الساداتواحدا منها، أوتفسيرهلحريق القاهرة واتهامه للأمريكان بشأنه إشعاله، وكذا ما ذكره عن حزب مصر الفتاة.
• علاوة على تفسيره لموقف جماعة الإخوان المسلمين وتوجهاتهم السياسية وتجنبها المشاركة فى المقاومة المسلحة للإحتلال البريطانى بمنطقة القناة رغم استعدادها العسكرى بالعتاد والرجال، أو فى انحيازها لأرباب العمل ضد العمال وللإقطاعيين ضد الفلاحين الفقراء، وللملك فؤاد وفاروق ضد حزب الوفد، ولإسماعيل صدقى ضد الشعب وكذا صلتها بالدوائر الإستعمارية والمشبوهة، وتقديره لدور سيد قطب مفتى اللجنة العمالية التى كان البكباشى عبد المنعم أمين رئيسها والملحقة بالباب الخلفى لمجلس قياة ثورة يوليو والمتحكمة فى شئون العمال.. وصلتها بأحداث عمال كفر الدوار الدامية فى 13/8/1952.. إلخ.
• ومن آرائه الهامة والتى تنم عن أن "رأيه من دماغه" ما ذكره بشأن تبنى سعد زغلول لعمليات الكفاح الوطنى المسلح ضد الإحتلال البريطانى فى منطقة القناة.. وتكليفه لمساعده عبد العزيز فهمى –بعيدا عن أعين بقية زملائه من قادة حزب الوفد- بالإشراف ومتابعة عمليات المقاومة الشعبية فى مدن القنال.. ثم إيكاله المهمة لإثنين من قادة عمال عنابر السكك الحديد هما إبراهيم موسى "البراد" وأحمد جاب الله "الخراط" عقب القبض على عبد العزيز فهمى.
• أما أبرز رؤاه فهى ما ذكره عن العرابيين وكيف أن التحام العمال والشعب والجيش فى معركة كفر الدوار ضد الغزو البريطانى لمصر قد أسفر عن انتصار هام للمصريين بينما وقعت الهزيمة عندما دارت المعركة فى صحراء الشرقية فى معركة التل الكبير.. ورغم أن هناك من العوامل الهامة التى لم يذكرها بشأن هزيمة التل الكبير مثل دور الخديوى توفيق وقيام وفد النواب الخمسة بتوزيع المنشورات وبث اليأس فى نفوس الضباط المصريين.. وتحريض العمد والمشايخ ضد أحمد عرابى وجيشه إلا أن الملاحظة تبقى سديدة وذكية.. ويدعم ذلك ما ذكره عن خطيب الثورة العرابية التلغرافجى عبد الله النديم وإذكائه الحماس بخطبه فى كل بر مصر على حد قوله وكيف أن دوره كان أكثر أهمية وخطورة من دور عرابى نفسه فى عمليات التصدى للإستعمار البريطانى وجيشه الغازى.
• ويمثل تقديره بشأن ثورة يوليو أحد أبرز القسمات لهذه السيرة سواء فيما يتعلق بموقفها فى تطبيق قانون الإصلاح الزراعى والذى عرضه بحنكة شديدة حيث ذكر كيف أن تسرب أخبار صدور القانون من داخل مجلس قيادة الثورة إلى الإقطاعيين أسهم فى تهريب الأرض كما أنه دفع أحدهم (قريب على ماهر رئيس الوزراء آنذاك) فى قرية سمبو مقام (مركز زفتى) لبيع أرض عائلته (3000 فدان) لأحد تجار المخدرات وكيف قامت الشركة بالاعتداء على الفلاحين -الذين كانوا فى انتظار تطبيق قانون الإصلاح الزراعى- بوحشية وكيف أسقطوهم بالرصاص من فوق أشجار النخيل التى لجأ إليها بعضهم هربا من هجوم الشرطة المباغت وكيف قتلوا العشرات واعتقلوا مائة فلاح حيث عذبوهم ثم وضعوهم فى أحواض سقاية الخيل لمدة ثلاث أيام متصلة.. بسادية نادرة. بينما أفلت تاجر المخدرات والإقطاعى بالأرض وثمنها.
• أو فيما يتعلق بمذبحة عمال شركة الغزل والنسيج كفر الدوار.. التى أضرب عمالها إضرابا مطلبيا عقب إضرابين آخرين لعمال شركة البيضا وحرير كفر الدوار المجاورتين.. وحصار الشركة بدبابات الجيش وقتل العشرات وجرح الكثيرين واعتقال المئات وعقد محاكمة هزلية فى ملعب كرة القدم وبحضور آلاف العمال وإصدار البكباشى عبد المنعم أمين رئيس مكتب العمال بمجلس قيادة الثورة للحكم بإعدام خميس والبقرى العام
لين بالشركة، وكيف أن تحقيقات ومحاكمات دنشواى وقبلها محاكمة سليمان الحلبى كانت أقل سوءا مما حدث فى كفر الدورا بما لا يقاس. وإبرازه أن حصار مصنع الشوربجى بإمبابة بعدها ومصنع عبد العزيز مصطفى للأدوات المنزلية بالقاهرة بالدبابات كان سياسة معتمدة وأسلوبا دائما فى مواجهة سلطة يوليو للعمال المطالبين بتحسين ظروف العمل وأحوالهم المعيشية.
• أما ملاحظته النقدية على الحزب الذى كان ينتمى إليه (حدتو) فتتسم بموضوعية واضحة حيث كان تثمين الحزب للعمل الجماهيرى والنقابى فى أوساط العمال مختلفا عن إدراكه هو لأهمية هذا النضال الجماهيرى والنقابى.. وكيف أنه استنادا إلى هذه القناعة رفض تكليف الحزب بترك عمله النقابى.. والاحتراف ضمن مجموعة الحزبيين من زملائه فى العمل السرى، وهو مايشير إليه من بعيد حيث كان محروما لسنوات من عضوية مكتب العمال المركزىفى ذلك الحزب رغم مكانته السياسية والنقابية فى منطقته وفى أوساط عمال النقل ورغم إنجازاته التى لا تخفى على أحد.. وبرغم هذه المآخذ فإنه لم يتناول زملاءه ومسئوليه ومعلميه فى الحزب وفى اتحاد نقابات عمال النقل المشترك –الذى كان عضوا بمجلس إدارته على المستوى القومى- لم يتناولهم بأى نقد بعيد عن الموضوعية بل وللحق كان يبجلهم ويحفظ لكل منهم مقامه.. ووزنه.
• لكنه فى نفس الوقت كان شديد الصرامة إزاء أية ميوعة سياسية حيث وجه للحزب انتقادا حادا بشأن إرساله لأحد أعضائه (عبد المنعم الغزالى) غلى مدينة كفر الدورار لتهدئة العمال المضربين الذين حصدت الدبابات زملاءهم.. خصوصا وأنه –أى الغزالى- اتصل بأحد رجال الجيش (رئيس المنطقة الشمالية العسكرية) فى محاولة لإمساك العصى من المنتصف بين سلطة يوليو والعمال. كما أنه ألقى باللائمة على فصائل اليسارين الحزبية التى تخاذلت فى المشاركة فى اللجنة التأسيسية لاتحاد نقابات عمال مصر بسبب الحلقية والخلافات السياسية التى احتدمت بينها.
• وفى هذا السياق لم يستبعد نفسه من الخضوع لملاحظاته النقدية حيث أدان قيامة بإلقاء قصيدة شعرية فى مدح الرئيس محمد نجيب بناء على طلب رئيس اتحاد عمال النقل المشترك آنذاك فى المؤتمر الذى عقد فى القاهرة بمناسبة زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة المريكية جون فوستر والاس للقاهرة ورغبة رئيس اتحاد النقل المشترك فى تلبية أوامر سلطة يوليو فى إظهار تأييد العمال لها أمام وزير الخارجية الأمريكى وكانت تلك القصيدة تتعارض مع قناعاته السياسية ورؤاه بشأن دور سلطة يوليو فى قمع العمال ومحاصرة العمل النقابى.. إلخ.
• لقد كان إصرار العم عطية الصيرفى على تبيان رؤاه السياسية لنضال الطبقة العاملة وللشعب المصرى موازيا لصراحة شديدة فى تعريف القراء بنفسه كإنسان يحمل بين جوانحه العديد من المشاعر المتباينة التى ربما تصل إلى تعريتها بكل ما فيها من سلبيات –لكنها كانت السلبيات التى تؤكد الإيجابيات أو الإستثناء الذى يثبت القاعدة كما يقال- ولم تكن تلك الصراحة أو الاستقامة إن شئنا الدقة قاصرة على تفصيل حياته البائسة وعذاباته المتنوعة وهمومه الكثيرة.. بل تطرقت إلى فترة عمرية هامة من حياته (الواقعة بين التاسعة عشرة والخامسة والعشرين). والتى صادف فيها احتياجا إنسانيا يجذب أقرانه من الشباب إلى النصف الآخر.. إلى المرأة.. والتى ذكر فيها انجذابه للثيبات من النساء دون الفتيات البكارى.. وهو ما قد يستوقف البعض.. خصوصا وأن شدة التصاقة بأمه وعرفانه بأفضالها.. وخصالها الفريدة قد خلقت عنده ذلك الميل إلى هذا النوع من النساء.. حيث كانت حياته عموما جافة وقاسية.. وكان كل وقته مكرسا لنشاطه النقابى والسياسى وعمله المهنى الذى يتعيش منه.. ويعول أمه المريضة.. المسنة. وحتى الساعات التى تفصل بين نشاط وآخر وبين التزام وغيره كان يوظفها فى الواجبات الإجتماعية. باختصار.. لا وقت عنده يبدده كما غيره من أقرانه وزملائه، ولا متعة يتذوقها كما بقية البشر.. فالحصار مضروب حوله من كل جانب.. خصوصا الحصار الأكبر من البوليس السياسى وأرباب العمل الذين عمل فى مؤسساتهم  ، ومن خصومه وأعدائه من الفرق والأحزاب السياسية الأخرى وحتى إن أفلت من بعض هذا الحصار.. فإلى أين يذهب.. ومع يتصادق وكيف؟ لقد كان ولعه بجمهوره وخدمته، وشغفه بزملائه وأقرانه وجيرانه وأهله والتفانى فى التخفيف عنهم، وإحساسه بضرورة اغتراف الثقافة والمعارف وأهميته.. هذه كلها صنعت منه مناضلا شديد البأس ومفاوضا قوى الشكيمة لا يفرط فى حق، وإنسانا له فى قلب كل من صادفه مكان، وحالما له قلب عصفور.
 كل ذلك كان حصارا من نوع آخر.. فرضه على نفسه أو فرضته عليه اختياراته مما صاعد من جفاف حياته وقسوتها، وفى مجتمع تخيم عليه الأفكار المتخلفة والغيبية وترتفع فى أركانه أعمدة الظلم والفساد والاستبداد، ويعانى من الفقر والجهل والعوز.. يشكل أمثال هذا المناضل الحالم نموذجا فريدا فى محيطة وزمنه، ونجما يُعوِّل عليه ويأمل فيه كلُّ من يرى فيه نافذة .. تخلصه من الهموم، بل ويتمنى حتى الخصوم أن يبلغوا مكانته أو يطاولوا قامته. لم يكن هذا العامل (عطية الصيرفى) متواضعا حلو اللسان طلى الحديث فحسب بل كان حسن الطلعة باسق القامة.. عالى الغصن.. فتَمنَّتْهُ كثيرات من فتيات مدينته وغير مدينته، وصار محط أمنيات كثيرات فقدن أزواجهن أو انفصلن عنهم.. أو اغتربن، بل وكان "مطمع" أمهات وجارات يرينه أفضل فارس أحلام لبناتهن.. وقد كسرت إحداهن القاعدة الراسخة منذ قرون وبادرت بخطبته لابنتها الجميلة.. بل أجمل جميلات المدينة ولم يب