عن جزيرة القرصاية .. بالجيزة : مشاهد فريدة .. من دروس المقاومة

 

 
تمهيد:
 
      بينما كنا نستطلع آراء بعض أهالى جزيرة القرصاية بالجيزة بشأن صمودهم ضد محاولات انتزاع أراضيهم الزراعية منهم فى الشتاء الماضى .. كحالة بحثية تكتمل بها دراسة يعدها مركز البحوث العربية والافريقية بالقاهرة عن الحركات الاحتجاجية الشعبية فى مصر وضح لنا ما ابتدعه أهالى الجزيرة ( فلاحين وصيادين ومثقفين) من أساليب وأشكال فريدة للمقاومة رأينا أن نوجزها فى السطور التالية:
 
·        تتواجد جزيرة القرصاية( التى تقع وسط نهر النيل بين منطقة الجيزة / المنيب ومنطقة مصر القديمة / المعادى ) ضمن عدد من الجزر المتناثرة جنوب مدينة القاهرة ، وقد كانت القرصاية جزءا من جزيرة يعقوب المتاخمة لها من جهة الشرق- الأكبر مساحة والأكثر سكانا- وتولت مياه النهر فصلها عن الجزيرة الأم منذ عدة عقود.
·        كانت الجزيرتان ( يعقوب والقرصاية ) مرتعا لعدد من المتنفذين منذ أكثر من 120 عاما من أفراد الدوائر المحيطة بالأسر الخديوية في العصر الملكى وكانوا يحوزون أرض الجزيرتين ويدفعون مقابل انتفاعهم بأراضيها ضريبة الأطيان، ولذا سميت إحداها باسم واحد منهم  وهو يعقوب صبرى.
وعندما أغرق النيل جزءا من الأرض التى يحوزها متنفذ آخر- عفيفى رضوان- طالب الأخير الدولة بأرض بديلة فأعطوه 11 فدانا فى جزيرة القرصاية كان من ضمنها الجزء الذى صادرته هيئة الإصلاح الزراعى بالقانون 178 / 1952 باعتبار أنه -ومن ثم ورثته- يملك مساحات أخرى.
·        هذا وكان وجود الفلاحين فى الجزيرتين راجعا لامتهانهم حرفة الزراعة.. بينما يمارس اآخرون منهم حرفة صيد الأسماك.
وكان المتنفذون يؤجرون الأرض للفلاحين بنظام المشاركة ويقتسمون إنتاجها مناصفة معهم .. إلا أن حصة الفلاحين لم تكن تتجاوز 25% – 30% من الناتج عند الحصاد إذا كان المحصول وفيرا، بينما لا يحصلون على شئ منه تقريبا وتتراكم ديونهم للمتنفذين فى حالة ضعف المحصول.
هذا وقد اتخذ عبد المجيد بن عفيفى رضوان.. من أحد أبناء الفلاحين ناظرا لعزبته يديرها ويسهر على شئونها.
·        بعد قيام ثورة يوليو 52 وصدور قانون الإصلاح الزراعى لم يتم تطبيق القانون على عبد المجيد رضوان، إلا أنه – وفى عام 1956- قام أحد الفلاحين واسمه عبد المعطى محمود عويس سلامة( زوج أخت ناظر العزبة) وابن عمه أبو بكر أحمد سلامة بالإبلاغ عن أراضى عبد المجيد رضوان إثر استماعهما لإذاعة صوت العرب التى كانت تذيع أنباء استيلاء الدولة على أراضى الإقطاعيين فى مختلف مناطق مصر وتتحدث عن درء المظالم عن الفلاحين الذين عانوا فى زراعة الأرض ولم يحصلوا منها إلا على الفتات.
 
كيف تمت مصادرة أراضى عبد المجيد وحسيبة وبهية رضوان بقانون الإصلاح الزراعى؟ : 
 
·        توجه عبد المعطى وأبو بكر سلامة لمندوبى مجلس قيادة الثورة المختصين بالإصلاح الزراعى وأخطراهم بحقيقة وضع فلاحى جزيرة القرصاية ومعاناتهم مع المتنفذين بها وعن زراعة الأرض وكيفية تقسيم عائدها من المحاصيل الزراعية ، واحتدمت المناقشة خصوصا بعدما عرفا أن ممثلى الثورة يعرفان عبد المجيد رضوان وشقيقتيه، وانصرفا على موعد بالإلتقاء صباح اليوم التالى فى مركز شرطة الجيزة.
·        وفى الاجتماع المرتقب تفجرت مواجهة حامية بين ممثلى الفلاحين وعبد المجيد رضوان تطرقت لأحوال الفلاحين وكيفية اقتسام المحصول.. تيقن على إثرها مندوبو الثورة من حقيقة الوضع فى الجزيرة وحدّة الصراع واحتمالات تطوره فى المستقبل وقوة منطق الفلاحين وتشددهم فى الحصول على حقوقهم كاملة، وقد التهبت المواجهة بسبب حشود الفلاحين التى توافدت إلى مكان الاجتماع وأحاطت بمركز الشرطة وهى فى حالة هياج واضحة.
وهكذا وصلت رسالة الفلاحين وممثليهم لمندوبى الثورة وتم فض الاجتماع وصرف الفلاحين.
·        بعد منتصف ليل نفس اليوم مباشرة داهمت حملة تفتيشية رسمية منزل عبد الحميد رضوان وصادرت دفاتر حساباته ومستنداته ووثائقه، أعقبها اتخاذ الإجراءات الخاصة بتطبيق قانون الإصلاح الزراعى على أملاكه هو وشقيقاته.
·        أخطرت هيئة الإصلاح الزراعى فلاحى الجزيرة بوقف التعامل مع حائز الأرض الأصلى (آل رضوان) والامتناع عن دفع الإيجار له واستبداله بهيئة الإصلاح الزراعى.
     باختصار صادرت الدولة الأرض نزعت ملكيتها بينمااستمرت فى تأجيرها للفلاحين بالإيجار المعمول به آنذاك.
 
لماذا تم تطبيق قانون الإصلاح الزراعى على آل رضوان بالقرصاية ؟ :
 
بفحص المستندات والوثائق الخاصة بآل رضوان بواسطة لجنة التفتيش تبين أن المرحوم عفيفى رضوان كان قد اشترى مساحة 82 فدانا من الأرض بعقد بيع ابتدائى، كما تبين أن الأرض المشتراة ليست مسجلة باسم يعقوب صبرى * ومن هنا تمت مصادرتها وصارت مملوكة لهيئة لإصلاح الزراعى التى أبقت على الفلاحين الذين يزرعونها ، واستمر الوضع على هذا الحال حتى الآن ، ولم تقم الدولة أو هيئة الإصلاح بتمليك الأرض للفلاحين كما كان معروفا فى بقية مناطق مصر، ومن هنا تفتقت أذهان بعض المتنفذين الجدد هذه الأيام عن الشروع فى الاستيلاء عليها طالما كانت مملوكة للدولة، واختاروا أن يتم ذلك عن طريق القوات المسلحة.
 
قصص المشاهد الأخيرة:
 
أولا: مشهد احتجاجى سابق لفلاحى جزيرة يعقوب:
 
·        فى عام 2001 جرت محاولة حكومية لطرد أهالى جزيرة يعقوب المتاخمة لجزيرة القرصاية( 35 ألف نسمة) من الفلاحين وذلك بتجريدهم من الأرض التى يزرعونها، مما دفعهم للإحتجاج بطريقتهم.
هذا وقد قاموا بقطع المرور فى الطريق الدائرى ( على الكوبرى الذى يعبر النيل والواصل من المعادى للمنيب ويقع على بعد 100 – 200 متر من الجزيرة ) ، والتجمهر على كورنيش النيل على طريق حلوان قرب حى المعادى مما أوقف المرور عليه كذلك، وأفضى هذا الاحتجاج إلى تراجع الدولة عن طرد سكان الجزيرة آنذاك.
·        ظل هذا المشهد ماثلا فى مخيلة سكان جزيرة القرصاية، إلى أن أعادته- بكل تفاصيله المؤلمة- خطابات الإنذار التى أرسلتها لهم بعض الدوائر الحكومية- ومنها هيئة الإصلاح الزراعى ووزارة الزراعة – تطالبهم بإنهاء العلاقة الإيجارية مع الدولة ومغادرة الأرض.
·        بمجرد معرفة أهالى القرصاية بذلك قاموا برفع دعوى قضائية فى اليوم التنالى 11 يونيو 2007 ضد هيئة الإصلاح الزراعى ووزارة الزراعة أمام محكمة القضاء الإدارى بالجيزة إعتراضا على القرار الصادر بإخلاء الأرض ويلقى بهم فى دائرة البطالة ويحرمهم من ممارسة حرفة الزراعة والصيد بل وعن ممارسة حياتهم.
 
    ثانيا: مشهد الدفاع عن الأرض والجزيرة :
 
 
·        كان القلق والترقب وتوقع الشروع فى تنفيذ القرار الإدارى بالقوة الجبرية لإخلاء الأرض من مستأجريها وإخلاء المنازل من سكانها فى أية لحظة.. هى المشاعر المخيمة على رؤوس سكان الجزيرة فلاحين وصيادين طيلة الفترة من شهر يونيو إلى نوفمبر 2007 إلى أن فوجئوا صباح 17 نوفمبر بحملة مسلحة من قوات الجيش وعدد من اللنشات والقوارب الحديثة تحيط بالجزيرة وتحتل أجزاء من أرضها.
·        احتشد الأهالى فى المنطقة المطلوب إخلاؤها استعدادا لمواجهة الموقف العصيب وتطورت الهمهمات الخافتة إلى حالة من الضجيج والصياح و الغضب.
·        بعدها شرعت القوات المسلحة فى مناورة تستهدف جذب أنظار الفلاحين المعتصمين على الأرض بعيدا عن المساحة المستهدفة وذلك باحتلال مساحة أرض أخرى تبعد حوالى 100 – 150 مترا عن الأولى.
·        توجهت إليهم مجموعة من الشباب والصبية واصطدمت بهم لفترة محدودة  إلا أن كبار السن من الفلاحين أوقفوا الاشتباك بعد أن وقعت بعض الإصابات فى صفوف الجنود .
·        وكانت أعداد منهم قد قامت بإعداد حفر أشبه بالقبور البدائية واستلقوا فيها على ظهورهم ولسان حالهم يقول: " ادفنونا هنا .. فلن نترك الأرض مهما فعلتم ".
·        وبذلك لم تنطل الحيلة على أهالى الجزيرة .. وفشلت الخدعة.
 
ثالثا: المشهد الفريد:
 
·        كان احتجاج أهالى القرصاية  ( مستندا إلى منطق بسيط أرسته البشرية مفاده: أنهم يمارسون حقهم فى الحياة- بعيدا أو حتى فى مواجهة- جملة " حقوق " أخرى مبتدعة كحق التملك والسيطرة، وضد أشكال مستحدثة من الغصب والفساد والسطو.
·        بينما ابتدع أهلها من المثقفين أساليب فعالة جديدة وفريدة من الدعاية لقضيتهم كسبوا بها قطاعا واسعا من الرأى العام المحلى وأجزاء من الرأى العام العالمى .. شكلت ضغوطا قوية ومؤثرة على الدولة وأجهزتها وعلى كل الطامعين فى الجزيرة بسبب أهمية موقعها فى محافظة تشتهر بآثارها التاريخية الفرعونية ( الجيزة ) ووسط أشهر أنهار العالم ( النيل ) .. وتمثل ذلك فى اجتذاب وسائل الإعلام المتنوعة والصحافة المحلية والعربية والعالمية وجمهور المثقفين والفنانين بكل ألوانهم وبالذات الفنانين التشكيليين.
·        لقد تتالت وفود الصحفيين من مصر ومراسلو الصحف العربية والأوربية والأمريكية، والقنوات الفضائية ، ومنظمات المجتمع المدنى ، والمثقفين والفنانين إلى الجزيرة لتسمع وتسجل بالصوت والصورة والقلم والألوان تاريخ أرض الجزيرة المستهدفة ، ووقائع ومحاولات السطو عليها، وأشكال الصمود فى مواجهة محاولات انتزاعها منهم،وعلى وجه الخصوص المنطق البسيط والقوى لأهلها الذى يبرز أن حقهم فى الحياة أقوى وأهم من أية ادعاءات واهية حول حقوق للملكية أو غيرها.
·        ليس هذا وفقط بل وانتقل صوت أهالى جزيرة القرصاية إلى خارجها – فى المحيط المحلى وخارج الحدود المصرية- وبأدوات جديدة ومؤثرة فكانت معارض الفنون التشكيلية والتصوير التى جابت صالات عرض شهيرة فى أوربا وغيرها أحد أصوات الاحتجاج وكسب المناصرين والمتعاطفين مع حق أهل الجزيرة فى الحياة فى أمن ودون عدوان.
·        من جانب آخر كانت المؤتمرات السياسية الجماهيرية – التى ضمت ممثلين لعديد من فلاحى قرى الدلتا ومن المثقفين والفنانين- واحدة من أدوات الاحتجاج والتضامن الفعالة.
·        ولم يفُت فى عضد الأهالى – علاوة على ما يلاقونه من تعنت حكومى- حرمانهم من عشرات الحقوق كالتعليم والعلاج والكهرباء والمياة النقية والغاز والصرف الصحى والمواد التموينية وغيرها..
 
·        فقاموا بالاكتتاب والتعاون لإدخال الكهرباء والمياة النقية بالجهود الذاتية.
 
·        وأسهم طبيب من سكانها فى رعايتهم صحيا وعلاجهم وتحصينهم ضد الأمراض.
 
·        وتولى فنان تشكيلى من أهلها مهمة تثقيفهم ورفع وعيهم وتزويد أبنائهم وبناتهم بالقدرة على تذوق الفنون .
 
باختصار كانت محاولات الطامعين فى جزيرة القرصاية بالجيزة مفجراً لجانب من طاقات أهلها ( 1000 فلاح ، 4000 صياد) فى التمسك بالحياة والدفاع عن حقهم فيها، وضرب المثل فى الصمود وابتداع الأشكال والوسائل لإثبات هذا الحق والدفاع عنه.
وهكذا توقفت إلى حين – ولا نقول انتهت- محاولات السطو على الجزيرة وغادرها المعتدون بخفى حنين.
 
رابعا: المشهد الأخير.. فى سراى محكمة القضاء الإدارى:
 
 فى 16 نوفمبر الماضى أصدرت محكمة القضاء الإدارى حكمها لصالح أهالى الجزيرة بإلغاء القرار الإدارى المتعلق بطردهم من أراضيهم الزراعية، وتقنين أوضاعهم كمستأجرين للأرض دعما لاستقرارهم، وبحلول يوم 27 ديسمبر 2008 يصبح الحكم الذى صدر.. حكما نهائيا ، إلا إذا قامت الدولة باستئنافه.. وهو ما يعنى الإعداد لشوط جديد من محاولات السطو على الجزيرة، ومن الناحية الأخرى- ناحية الأهالى-الاستعداد لجولة قادمة يكون عتادها التيقظ والحذروالبحث عن أساليب جديدة فى مقاومة العدوان.
 
 
15 ديسمبر 2008                                                                     بشير صقر
                                                                       لجنة التضامن مع فلاحى الإصلاح الزراعى
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
 
* تهرب الكثير من الإقطاعيين من تطبيق قانون الإصلاح الزراعى بهذه الطريقة فأغلبهم – إن لم يكن كلهم- كانت حيازاتهم من الأراضى الزراعية ليست مسجلة بكاملها ( أى إما مشتراة بعقود بيع ابتدائية،أو مغتصبة أو مستبدلة أو بوضع اليد.. إلخ) ومن هنا لا يضمنونها فى إقرار ملكياتهم المقدم لهيئة الإصلاح الزراعى  بل يدونون فى الإقرار الأرض المسجلةفقط وهذا ماحدث فى حالة كمشيش وحالة آل رضوان بالقرصاية.