عما نشر بشأن إسقاط ديون الفلاحين المصريين

هل يستهدف مصلحة الزراعة والفلاحين ..؟
أم يقصد وضع الفلاحين تحت رحمة مصدر القرار ..؟
أم أن طابعه دعائي .. كشماريخ الأعياد ..؟

تناقلت الصحافة الورقية والإلكترونية خبرا عن عزم الدولة الجديدة إسقاط ما يقارب 100 مليون جنيه من ديون الفلاحين بحد أقصى عشرة آلاف جنيه للفرد من الفلاحين المتعثرين، وقد بحثنا عن نص القرار الخاص بالموضوع فى الجريدة الرسمية على شبكة الإنترنت فلم نجد شيئا.
وحيث سبق أن انتشرت شائعة مشابهة عن ذات الموضوع فى عام 2008 لم تسفر فى التنفيذ العملى عن شئ ؛ وللأسف روجت لها بعض القيادات الفلاحية التى كانت على رأس أحد اتحادات الفلاحين التى انهارت فى أكتوبر عام 1997.. بل وشكرت الرئيس السابق على ذلك القرار أكثر من مرة على شاشات الفضائيات بالرغم من عدم استفادة فلاح واحد من قراهم من ذلك القرار المزعوم . ولهذا رأينا أن نطرح عددا من التوضيحات والاستفسارات فى قضية ديون الفلاحين سعيا من لجنة التضامن الفلاحى لاستكشاف حقيقة الخبر من ناحية وإبرازاً لجذور هذه المسألة وأسس علاجها الفعالة من ناحية أخرى.

أولا : ممن يستدين الفلاحون ولأى غرض؟ :

1- عند نشأة الجمعيات التعاونية الزراعية فى مصر من أكثر من نصف قرن ؛ اشترى كل فلاح من أعضائها المؤسسين سهما فى رأسمالها كما دفع اشتراكا سنويا تراكم عاما بعد عام ليشكل على مدى العقود الماضية رأسمال الجمعيات الزراعية ، وبمثل ما تم فى أراضى الائتمان تكررالأمر فى أراضى الإصلاح الزراعى وأراضى الأوقاف وتأسست جمعيات تعاونية زراعية أخرى كانت مهمتها هى:
أ- إمداد الفلاحين بمستلزمات الزراعة المدعومة من الدولة ( كالبذور والأسمدة والمبيدات والأعلاف والآلات الزراعية والأمصال واللقاحات) .
ب- وفيما بعد بتسويق ما تنتجه الأرض من المحاصيل خصوصا القطن والأرز وقصب السكر وأجزاء من محصول القمح.
2- وكان الفلاحون ينفقون على عمليات الزراعة وخدمة المحصول ومقاومة الآفات والحصاد مما يقتروضونه من تلك الجمعيات الزراعية و بنك التسليف الزراعى والتعاونى بفائدة سنوية لا تتجاوز 4 % ، و فى نهاية الموسم الزراعى يتم تحصيل قيمة القروض من ثمن بيع المحصول؛ واستمر ذلك حتى السنوات الأولى من عهد السادات.. بعدها ومع تطبيق سياسة هيكلة الزراعة اختلف الوضع بالتدريج وانتقلت رءوس أموال الجمعيات الزراعية التى هى أموال الفلاحين لتصير بقدرة قادر جزءا من رأسمال بنك التسليف الذى صدر بشأنه قرارساداتى ليصير بنكا تجاريا يقرض الفلاحين وغيرهم بفائدة تجارية – كبقية البنوك التجارية الأخرى- بلغت 12 % ارتفعت إلى 14%، وشيئا فشيئا تم رفع الدعم عن مستلزمات الزراعة لتتضاعف كل عدة سنوات أسعارها ؛ وهو ماحدث كذلك بالنسبة لضريبة الأطيان التى على أساسها كانت تتحدد إيجارات الأرض الزراعية وبذلك تضاعفت تكلفة الزراعة .
3- ولأن الدولة فيما قبل السادات كانت تحتكر تجارة الحاصلات الزراعية التقليدية وفى عهده أفسحت المجال جزئيا لصالح تجار القطاع الخاص وتعاونا سويا فى التضييق على رفع أسعارها مقارنا بما يتكلفه إنتاجها بل وبأسعارها فى السوق العالمية ، وهو ما أضر بالفلاحين الصغار والفقراء وبالمستأجرين ضررا بليغا. من جانب آخراتخذت الدولة بعض الإجراءات واستصدرت عددا من القوانين وألغت عددا آخر كان ساريا وفرغت عددا ثالثا من مضمونه لتتدهور الزراعة وتنهار دخول الفلاحين وتفقد زراعة القطن طويل التيلة أسواقها العالمية حتى تم القضاء عليها وعلى الصناعات التى ترتبط بها؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر تم إلغاء قانون الدورة الزراعية ( الذى يحظر زراعة الأرض بمحصول واحد سنتين متتاليتين ) لصالح سياسة فوضى الزراعة للدرجة التى بلغت بها المساحة المزروعة بلب التسالى سنويا 170 ألف فدان وهو ما كان يتجاوز ما تستصلحه الدولة من أراض جديدة فى كثير من السنوات.
4- هذا وقد تم تعديل القانون بما يتيح للبنوك تحصيل قيمة القروض بالحجز القضائى على الأرض وليس على المحصول كما كان متبعا قبل ذلك .. بما يعنى عدم الحرص على استمرار الفلاحين المقترضين فى الزراعة بقدر ما يعني تحصيل قيمة القروض ولو بتجريد الفلاحين المستدينين من أراضيهم.
5- ليس هذا وحسب بل واستحدثت البنوك دورا جديدا للقروض بتوظيفها فى اقتناء السلع المعمرة كالأجهزة الكهربائية والأثاث وأنابيب الغاز الطبيعى والدراجات البخارية وغيرها على حساب توظيفها فى الإنتاج الزراعى.

ثانيا: انهيار الزراعة بإجراءات جديدة موازية :

1- من جانب آخر فتحت الدولة الباب واسعا فى عهد السادات أمام الشركات الدولية الكبرى العاملة فى مجال إنتاج وتسويق مستلزمات الزراعة لتستحوذ على الجزء الأكبر من سوق التقاوى والأسمدة والمبيدات على حساب السلالات والأنواع المحلية منها ؛ وتم ذلك بالتعاون مع كبار الزراع والملاك والمستثمرين بل وعدد من أجهزة الدولة المختصة .
2- وقد واكب ذلك انهيار فى عدد من المرافق الزراعية كالصرف المغطى وجزئيا قنوات الرى التى أهملت العناية بها وتعثر تطهيرها وهو ما أثر على إنتاجية الأرض وصلاحيتها ومحاصرة وعلاج أمراضها وألقى بتكلفة إصلاحها الباهظة على عاتق الفلاحين.
3- وقد تفاقم هذا الوضع بشكل درامى فى عهد مبارك وبالذات بعد تولى يوسف والى وحاتم الجبلى مسئولية وزارة الزراعة:
أ‌- وزاد الطين بلة استيراد الدولة للمبيدات الضارة بالأرض وصحة الإنسان والحيوان والمستهلكين للمحاصيل الزراعية مما جعل الريف المصرى مرتعا لأوبئة الفشل الكلوى وفيروسات الكبد والسرطان .. التى انتشرت فيما بعد إلى المدن الريفية.
ب‌- وبسبب انتشار الفساد منحت الأراضى المستصلحة الجديدة للأجانب وللكبار من المستثمرين والملاك والزراع ورجالات الدولة وأُغلقت أبوابُها فى وجه المعدمين من عمال الزراعة و الفقراء والصغار من الفلاحين الذين ضاقت بهم أراضيهم واستحالت وظائف الدولة وقطاع الأعمال على أبنائهم وتدهورت دخولهم من الزراعة بسبب الارتفاع المستمر فى تكلفتها.
ت‌- وجراء الضربة القاصمة لقطاع كبير من فقراء الفلاحين والمستأجرين بصدور قانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى الأرض الزراعية الذى ضاعف إيجارات الأراضى الزراعية فى أول ارتفاع له بعد تنفيذ هذا القانون إلى 400 % عام 1997 و تصاعد سنويا ليبلغ الآن فى بعض المحافظات إلى أكثر من 1200 % من إيجارها السابق.. ولأن استصلاح الأرض انحسر بشدة وذهب ما أنجز منه إلى الكبار فقد كان مصير المطرودين والفارين من الأرض المستأجرة هو الهروب إلى عشوائيات المدن والتشرد.
كانت تلك لمحات سريعة مما حاق بالزراعة والفلاحين من أضرار جسيمة بسبب سياسة هيكلة الزراعة ؛ ومما ارتكب من جرائم تتعلق بالسيولة المطلوبة للإنفاق على زراعة الأرض من القروض الزراعية.

ثالثا : هل المطلوب إنهاض الزراعة والفلاحين من الأزمة.. أم إبقاء الفلاحين تحت رحمة الحاكم أم إطلاق ” شماريخ ” للدعاية السياسية ؟

يتطلب إنهاض الزراعة والفلاحين من أزمتهم:

سياسة جديدة تستهدف استقلالها عن التبعية للخارج وتوفيرالاكتفاء الذاتى من الغذاء وبالذات الحبوب ؛ وتحافظ على الأرض واستمرارها فى الإنتاج وعلى علاقة الفلاحين بها ولا تجردهم منها وتحقق الوظيفة الاجتماعية الأولى لها كمصدر للغذاء والكساء بصرف النظر عن الشكل القانونى لملكيتها ؛ وتشرع فى تصنيع المنتجات والمحاصيل الزراعية محليا بدلا من تصديرها كمواد خام رخيصة الثمن فترفع من دخول الفلاحين والدولة .

ولايمكن تنفيذ ذلك دون:

1- وقف سياسة هيكلة الزراعة وإلحاقها بالتبعية للخارج عن طريق الشركات العولمية الكبرى العاملة فى مجال مستلزمات الزراعة وخضوعها لعمليات التطبيع الزراعى مع إسرائيل .
2- والتخلى عن سياسة القضاء على نمط الإنتاج الفلاحى الصغيرواستبداله بنمط المزارع الواسعة والزراعة الكثيفة.
3- وتغيير القوانين المنفذة لتلك السياسات ؛ ودون إعادة دعم مستلزمات الزراعة ( تقاوى ، أسمدة ، مبيدات .. إلخ ).
4- وخفض ضرائب الأطيان ، ووضع سقف لإيجارات الأراضى الزراعية تتناسب مع إنتاجها ومع التكلفة الفعلية للزراعة .. وحد أدنى لمدة عقد إيجارها لا يقل عن خمس سنوات متصلة ، ورفع أسعار الحاصلات الزراعية بما يعود على الفلاحين بدخل يكفل لهم حياة كريمة آمنة.. أوتمكينهم من تصديرها للخارج.

5- وفى مجال القروض الزراعية إبراز الحقائق التالية:

أ‌- أن أصل القرض الذى مقداره ( ألف جنيه ) وكفّ صاحبه عن تسديده لعدة سنوات متصلة يبلغ إجماليه عدة أضعاف ( ربما 4 – 5 آلاف جنيه ) بسبب تضاعف الفوائد وغرامات التأخير وعدم الالتزام بشروط القرض ، ولمعرفة حجم أصل القروض الزراعية يتطلب الأمر حصرها دون الفوائد والغرامات وغيرها ونشر موجزها فى وسائل الإعلام .
ب‌- أن الفوائد الحالية تصل بمصروفاتها الإدارية إلى حوالى ( 19 % – 20 % ) وهى تبلغ خمسة
أمثال الفائدة عام 1970 أى قبل عهد السادات ؛ بمعنى أن ما يتكبده الفلاح حاليا فى سنة من فوائد للقروض يعادل الفائدة القديمة فى خمس سنوات .
ت‌- أن قروض الإنتاج فى كل بلاد العالم وكل مجالات النشاط الإنتاجى الزراعى والصناعى تُمنح للمنتجين المباشرين بفوائد أقل كثيرا من فوائد القروض التجارية بما لايقل عن 50 % منها.
ث‌- أن من يقترض من رأسماله يكون بفائدة تقل كثيرا عن فائدة من يقترض من رأسمال غيره.
ج‌- أن الحفاظ على استمرار المقترضين فى ممارسة عملية الإنتاج وتواصلها يتطلب فى الأساس بقاء سعر الفائدة فى متناول طاقتهم؛ أى متناسبا مع تكلفة عملية الإنتاج ومع صافى دخولهم بعد خصم التكلفة من عائد بيع المنتج ( المحصول ).

وعليه فإن ما تم نشره عن إسقاط ديون الفلاحين يتطلب لتفهم دوافعه الإجابة عن الأسئلة التالية:

1- ماهو حجم أصل الدين المطلوب تسديده للفلاحين المستهدفين بالإعفاء عموما ولكل فلاح على حدة وليس حجم إجمالى الدين الحالى؟
2- هل يقتصر ما نشر عن إسقاط ديون الفلاحين على العمل الزراعى أم يتجاوزه إلى ديون أخرى غير زراعية ؟
3- هل هناك نية حقيقية لتخفيض سعر فائدة القروض الزراعية ؟ ومتى يحدث ذلك إن كانت الإجابة بنعم ؟ ، وما هى العوائق التى تحول دون البدء بتخفيضها من الآن .. إن كانت الإجابة بلا ؟ وبالتالى ما أهمية العمل بنفس السياسة القديمة التى أفضت إلى هذه التعثرات طالما ليست هناك نية لعلاج أسبابها الحقيقية ؟
4- هل ستتوقف بنوك القرى عن رفع الدعاوى القضائية على الفلاحين المتعثرين ؛ ولماذا لا يتم الإفراج عمن لا زالوا قيد الحبس منهم ؟ وما هو مصير من تم حبسهم وأنهوا مدة العقوبة؟ وهل سيكون من حقهم استئناف الحصول على قروض أخرى فيما بعد؟
5- هل ستعمل الدولة على إعادة ما استولت عليه بنوك التسليف وبنوك القرى من رءوس أموال الجمعيات التعاونية الزراعية فى وقت سابق أم لا ؟ وإذا كانت الإجابة بنعم هل سيتم ذلك بالفوائد المستحقة أم بدونها ؟، وإن كانت الإجابة بلا فما أهمية إسقاط الديون الحالية إن لم يتم إعادة الحق لأصحابه وما لم يتم توفير الشروط المناسبة لاستئناف الفلاحين للعمل بعيدا عن الاقتراض والتعثر وأحكام السجن ؟.. أم أن هناك سياسة جديدة تتمثل فى إقراض الفلاحين بنفس الشروط القديمة أو بشروط قريبة الشبه بها ثم تعثرهم وتوقفهم عن السداد وتعرضهم لأحكام السجن ولا يتبقى لهم مخرج سوى قرار جمهورى بإسقاط الدين أو جزء منه وقرار آخر بالإفراج عمن يقضى عقوبة السجن منهم أو تخفيفها ليظلوا تحت رحمة مصدر القرار بدلا من التفرغ للإنتاج؟
6- هل يمثل خبر إسقاط الديون المشار إليها مجدرد إجراء دعائى وإعلامى يخص الدولة الجديدة ؟ أم أن النية تتجه لتعديل السياسة الزراعية وفى القلب منها هيكلة الزراعة ووضع حد أقصى للملكية الزراعية حتى لا يُعاد إنتاج تركز الملكية الذى سبقت مواجهته بقوانين الإصلاح الزراعى وتحجيم دور الشركات العولمية الكبرى العاملة فى مجال تجارة مستلزمات الزراعة والحفاظ على حق الفلاحين فى العمل الزراعى وتوفير شروطه وحصولهم على مستلزمات زراعة مدعومة .
ولاشك أن حقيقة خبر إسقاط ديون الفلاحين ستتضح فور صدور القرار ومعرفة طريقة التنفيذ وحجم الديون المسقطة ، وما إذا كان الهدف منه دعائيا أم يتعمد وضع الفلاحين تحت رحمة مصدر القرار أم يستهدف مصلحة الزراعة والفلاحين التى تتطلب فى المقام الأول استئصال الداء من جذوره بتغيير السياسة التى أدت لتعثر الفلاحين وحولت الكثيرين منهم من منتجين للغذاء والكساء إلى مشردين بعشوائيات المدن الكبرى أو إلى نزلاء بسجون من وضعوا تلك السياسة وفاقدين للأمل فى حياة كريمة فى بلد هم أول من بنوه ووضعوا أسس استقراره واستمراره.

الخميس 16 أغسطس 2012 لجنة التضامن الفلاحى – مصر