إلى المحبطين والمتشائمين من مستقبل الثورة المصرية
تمهيد:
لأن الثورة – أية ثورة –لا تسير فى خط مستقيم وطريق ممهد.. بل فى مستوى صاعد ومسار وعر تتخلله انحناءات شتى ومرتفعات ومنخفضات بسبب جملة من التضاريس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى تشكل المجال الذى تتفاعل فيه.
ولأن الشعوب تختلف فى تفاصيلها من حيث أحجام الطبقات والفئات المكونة لها ؛ وانطلاقا من درجة الوعى والتنظيم والفاعلية والتاريخ الكفاحى وأدوار النخب.
فإن المعارك السياسية والطبقية لا تندلع استنادا إلى النظريات السياسية بل من واقع التناقضات الفعلية على الأرض ؛ وبسبب التحالفات الحقيقية المتحققة بين أطراف الصراع ؛ وأخيرا نتيجة للمبادرات والقرارات الصائبة والخائبة التى تُتّخذُ فى مكان وزمان بعينه.
الشرارة التى دشنت الجولة الثانية من الثورة:
وإزاء الأحداث التى جرت فى مصر منذ مساء 21 نوفمبر 2012 بدءا من صدور الإعلان الدستورى الرئاسى الأول ورد الفعل الشعبىالمعارض وموقف الأغلبية الساحقة من القضاة الرافض له ؛ ومرورا بصدور إعلان دستورى ثان والانتهاء المتسرع من مسودة مشروع الدستور وإعلان موعد الاستفتاء عليه ومحاصرة المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى ؛ وانتهاء بنتيجة الجولة الأولى من الاقتراع عليه واستمرار الرفض الشعبى لها واعتصام رجال النيابة العامة الذى أسفر عن استقالة النائب العام الجديد والعدوان على حزب الوفد المترافق مع تهديدات صريحة من كل قادة فصائل الإسلام السياسى باستخدام العنف إزاء الرفض الشعبى تجاه ممارسات نظام الحكم.
إزاء هذا كله ظهرت بعض التقديرات لعدد من أفراد النخب السياسية تعكس حالة من الإحباط من نتائج الجولة الأولى للاستفتاء على مشروع الدستور التى جرت السبت 15 ديسمبر 2012 وهو ما يُخشى من تأثيره فى أمرين : الأول.. هو انحسار المد الجماهيرى الساعى للتصويت بلا فى الجولة الثانية من الاستفتاء فى 22 ديسمبر 2012 ؛ والآخر.. تثبيط همة الجماهير المصرة على استمرار المواجهة مع النظام الحاكم – بشعار ” يسقط حكم المرشد ” ويفت فى عضدها ويكسر مجاديفها.. بينما الحقيقة الساطعة أن الثورة وجماهيرها تنتقل من نجاح إلى نجاح وتحرز انتصارات متتالية لا يمكن إنكارها أو حتى التقليل من شأنها.
تلك الحقيقة الساطعة هى أن مصر تشهد الآن حالة ثورية واضحة أعلى مستوى وأكثر نضجا من مثيلتها إبان جولتها الأولى فى يناير وفبراير 2011 وملحقها فى أول يونيو 2012 فى أعقاب أحكام القضاء على الطاغية وأبنائه ومساعديه.
ولو عدنا للوراء لنفس هذا اليوم ( 21 ديسمبر ) منذ عامين ( 2010) لرصدنا الآتى :
1- أن مبارك كان يتولى رئاسة النظام الحاكم ويقوم باللمسات الأخيرة لتوريثه فى أعقاب مهزلة الانتخابات البرلمانية التى جرت فى شهر نوفبر 2010 .
2- ومنذ ذلك التاريخ توالت الأحداث بسرعة مدهشة لم تعهدها مصر من قبل ؛ حيث اندلعت الثورة فى 25 يناير 2011 وتمت تنحية الطاغية والدائرة القريبة منه فى 11 فبراير ؛ وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد الحكم لما يزيد عن ستة عشر شهرا بدأت بشعارات وآمال شعبية ” الجيش والشعب إيد واحدة ” وتحولت بعد أقل من تسعة أشهر إلى ” يسقط حكم العسكر “.
3- وفى تلك الفترة تجلت جسارة وإصرار شباب الثورة التى جذبت شباب الأحياء الفقيرة فى عدد من المعارك الدامية ضد الشرطة العسكرية وبلطجية الحزب الوطنى وقوى أخرى لم يكشف عنها النقاب فى عديد من المدن الكبرى ” كالقاهرة والسويس والإسكندرية ” ورغم ما اعتراها من أخطاء – بسبب حداثة العهد بالنضال السياسى – إلا أنها حافظت على حيوية الثورة وتدفقها ؛ كما لعبت التظاهرات الاحتجاجية لكثير من العمال والمهنيين والموظفين دورا لايقل أهمية يفصح عن مضمون مطالبها الاجتماعية.
4- وفى نوفمبر 2011 وحتى يونيو 2012 لم تكن قطاعات الشعب فى المدن والريف قد اكتشفت الوجه الحقيقى لفصائل الإسلام السياسى رغم تشكك بعض تلك القطاعات فى المدن فى كثيرمن ممارسات ونوايا ذلك التيار ومع هذا دفعت بممثليه إلى البرلمان- بنسبة 70 % من المقاعد- واضطرت لاختيار رئيس الدولة من صفوف جماعة الإخوان المسلمين.. ولم يكن هذا خيارها المطلق لأن العسكر – وبحرفية بالغة – وضعوها فى موقف المفاضلة بين رئيس يمثل الطاغية مبارك وآخر يمثل جماعة الإخوان بكل ما يحوطها من ريب وشكوك.
5-وما هى إلا خمسة أشهر حتى اكتشفت أعداد هائلة من الجماهير فى المدن الكبرى وعواصم المحافظات والمدن الصغرى بل وبعض القرى الوجه الحقيقى لذلك التيار وبالذات أبرز فصائله ( جماعة الإخوان المسلمين ). ومنذ 22 نوفمبر 2012 رفعت شعار ” يسقط حكم المرشد “؛ صحيح أن ذلك التيار تكفل بارتكاب عدد من الجرائم والأخطاء الفاحشة – أسهمت مع عوامل أخرى- فى إزالة النقاب عن وجهه القبيح والدميم ؛ وأيقنت الجماهير أن تشككاتها السابقة كانت فى محلها .. وعلى الفور كان رد فعلها هادرا وهو ما لم يتوقعه أكثر المتشائمين فى فصائل ذلك التيار بل ولا أشد المتفائلين فى صفوفها .
6- واستتبع ذلك حصارها للقصر الرئاسى وحشودها فى شوارع معظم المحافظات فى إصرار عنيد على رفض استبدال طاغية بآخر وحزب ديكتاتورى بحزب فاشى؛ وتجلى ذلك فى الطوابير الكيلومترية للنساء والفتيات قبل الرجال والشباب أمام لجانالاقتراع على مشروع الدستور فى جولته الأولى .
7- ليس هذا فحسب بل ورد الفعل القوى لنتائج جولة الاستفتاء الأولى خصوصا فى محافظات الجولة الثانية.. وليس فى عواصم الأخيرة فقط بل فى عديد من مدنها الصغيرة ( كوم حمادة / بحيرة ، بركة السبع / منوفية..) وقراها ( مشتهر ، شبلنجة ، العمار / قليوبية ، جنزور وأبو مشهور/ منوفية ).
8- والمثير للبهجة ما قام به الأطفال فى إحدى المحافظات حيث بادرت مجموعات منهم بتظاهرات مستقلة مقتصرة عليهم تحمل شعارات وبيانات ضد مشروع الدستور وهو مؤشر بالغ الأهمية أن يصل الرفض للأطفال .. فلم يظلوا فى موقف المتفرجين ولا ساروا فى مظاهرات الكبار متشبهين بهم وإنما انفردوا باحتجاجاتهم الخاصة.
– وإزاء ذلك كله لا يمكن إلا أن نتأكد أن الثورة سائرة فى طريقها وتنضج يوما بعد آخر .. ولأنها ليست لحظة أو مجرد فوْرة تخرج كل ما فى بطنها دفعة واحدة؛ و تغير فى عشرين شهرا ما فسد وأُفسِد فى نصف قرن أو يزيد فى ظل انقطاع دام عشرات السنين عن العمل السياسى ومصادرة للحريات؛ ولأنها عملية طويلة أشبة بالولادة الصعبة – التى نريدها ولادة طبيعية لا قيصرية – فلابد أن تأخذ مداها فتفرز الثوار الحقيقيين من المزيفين ؛ واللاعبين على الحبال والمرتزقة من السياسيين الشرفاء ؛ ومناضلي الاحتفالات والصالونات وأجهزة الإعلام من المناضلين فى المصانع والقرى وبين صفوف فقراء المدن والمهنيين؛ وتفصل بينأعداء الثورة الحاليين والقادمينوبين داعميها الحقيقيينوتكتشف المؤيدين لها حتى حدود معينة لا يتجاوزونها من المنحازين للكفة التى ترجح.. إلخ وذلك كله ضرورى لإنضاج شروط نجاحها وانتصارها النهائى .
– وفى كل يوم يمر من عمرها تزداد أعداد المنخرطين فيها من الصامتين والجوعى والمهمشين واليائسين وهو ما يرفع معنوياتهم من ناحية ويقوى شوكتها من ناحية أخرى ؛ بل ويكشف عن الطابور الخامس لأعدائها فى الخلايا النائمة فى صفوف الأجهزة السيادية كالقضاء والشرطة والجيش وأجهزة الرقابة و جمع المعلومات وغيرها.
– لقد أسهمت الأحداث الأخيرة فى فضحكثير من العناصر من تيار استقلال القضاء ولولاها لظللنا نمجدهم منذ معارضتهم لحكم الطاغية فى أوقات سابقة؛ كذلك لعبت دعوة الرئاسة للحوار مع القوى السياسية دورها فى تعرية الباحثين عن أى دور من المهرولين من بعض الأحزاب ومرشحى الرئاسة السابقين وهو ما يوسع عملية فرز أعداء الثورة المقنعين من مناصريها ويعمقه.
– كذلك ستكشف الأيام القادمة عن آخرين ليسوا مع الثورة .. أو معها حتى إزاحة تيار الإسلام السياسى منالسلطة فقط وهؤلاء لن يتزحزحوا خطوة واحدة بعد ذلك إذا ما حان وقت تحقيق أهداف الثورة ؛ بل وآخرين سيتساقطون واحدا بعد الآخر عندما يتقدم الفقراء الصفوف .. وهكذا .
– – ولا نستبعد أن تشهد الثورة فى مسارها اللاحق اصطفاف كثير ممن كشفتهم عملية الفرز فى خندق واحد ضد الثورة.
إن الخطأ الأساسى الذى تم ارتكابه فى الجولة الأولى للثورة فى يناير وفبراير 2011 كان عدم تشكيل قيادة فورية لها تفرض مطالبها ولا تعرضها أو تكتفى بإعلانها ؛ وتحث الشعب على الاستماتة فى تحقيقها دون أن تتركها لغيرها .
ولعل شعار الجماهير الذى ارتفع حول قصر الرئاسة ” يسقط حكم المرشد “يوضح الفارق بين ما تسعى لتحقيقه وبين شعار قادة جبهة الإنقاذ ” إلغاء الإعلان الدستورى أو تجميده ، لجنة تأسيسية جديدة ، دستور توافقى ” ذلك الشعارالذىلم يعبأ به التيار الإسلامى وضرب به عرض الحائط.
وهو ما يقودنا لدلالة الإعلان الدستورى فى 21 نوفمبر 2012 التى تمثلت فى الآتى :
1- عزم رئيس الدولة وتيار الإسلام السياسى بفصائله الثلاثة ( الجماعة ، السلفيين ، التنظيمات الجهادية ) على بدء الهجوم الاستراتيجى والشروع العملى فى التنكر للديموقراطية وتداول السلطة والدولة المدنية ومطالب الثورة .. وهو ما انخدع بشأنه معظم النخب فضلا عن الأغلبية الساحقة من الشعب
2- إبطال مفعول المحكمة الدستورية والقضاء عموما قبل الحكم ببطلاناللجنة التأسيسية ومجلس الشورى لمخالفتهما الإعلان الدستورى الذى وضعه العسكر وأتى بهما وانتخب بموجبه الرئيس وحلف اليمين؛فضلا عن احتمال الإعلان عن بطلانإجراءات الرئيس وإعلاناته الدستورية .فقد بات التخلص من المحكمة الدستورية مطلبا حيويا لتيار الإسلام السياسى للإبقاء على مجلس الشورى واللجنة التأسيسية ومشروع الدستور ليتسنى الإعلان عن موعد الاستفتاء عليه ومن ثم تزوير الموافقة عليه ؛ ولكى يتيسر التصدى لرد الفعل الشعبى المتوقع وتكميم الأفواه منح الإعلان صلاحيات اشتثنائية للرئيس .
باختصار كان الإعلان الدستورى إعلانا للحرب ضد الشعب والمعارضة أو كما سماه من أصدروه إطلاق النفير.. وهو بالقطع ليس نفيرا للتصالح والسلام.
مربط الفرس أو مقتل الإعلان الدستورى :
إن مالم يضعه مصدرو الإعلان فى الحسبان هو حجم رد الفعل الشعبى وثورة القضاة وهذا مربط الفرس ؛ فمجرد تقدير خاطئ لأحد القرارات أو الإجراءات يمكن أن يؤدى إلى عكس ما أراده صاحب القرار ويحيل المجتمع إلى ساحة حرب بين فريقين ؛ كما يصبح التراجع عنه أمنية بعيدة المنال لأنه- أى التراجع – سيستنفر كل مشاعر الغضب والتحدى الرابضة فى صدورالجماهير التى يتلاعب القرار بمشاعرها ومصالحها؛ وساعتها لا يتبقى سوى طريق واحد هو المسموح بالسير فيه ” الاستمرار فى الهجوم ” وذلك ما حدث بالضبط بشأن ذلك الإعلان .
فقد توقع تيار الإسلام السياسى وجماعة الإخوان أن يكون رد الفعل محدودا أو تمكن السيطرة عليه لأنهم قاسوه ” بمازورة ” قديمة كانوا يستخدمونها قبل الثورة أيام أن كانوا فى موقف معارض ؛ وكان ذلك هو الشرارة التى دشنت الجولة الثانية من الثورة فى جانب والقشة التى قصمت ظهر البعير فى الجانب الآخر ؛ تلك الشرارة فتحت نار جهنم التى تراكم وقودها منذ الأيام الأولى للثورة ضد الجماعة فانفجرت المظاهرات الضخمة وهوجم ثمانية ٌ وعشرون مقرا للجماعة وارتفع الهتاف ” يسقط حكم المرشد ” .
لقد تجلى غباء جماعة الإخوان بأوضح ما يكون فى حساب رد الفعل ولمّا أٌسقِط فى أيديهم وتورطوا واجهوه بالعنفوالسلاح فتفاقم غضب الشعب وانكشف وجه الجماعة وبدا هزيلا ومجنونا ومعه سقطت الأوهام التى تبناها كثير من النخب السياسية عن الخبرة السياسية للجماعة التى حصلتها خلال ثمانين عاما.
الأوهام أقصر الطرق للإحباط :
– وبسبب حجم رد الفعل الشعبى توهم الكثيرون أن النظام على وشك السقوط ” ولا يتبقى له إلا دقة “يمكن أن يمثلها التصويت بلا فى الاستفتاء على مشروع الدستور ونسوا أن نظام الإسلام السياسى يختلف من هذه الزاوية عن نظام مبارك.. فالأخير كان يعتمد على أجهزة الدولة الأمنيةلكن الأول يستند على تنظيمات متشعبة وأجهزة سرية مسلحة ومناخ من التخلف ووعى سياسى ونقابى متدنيينيمسكان بخناق الريف ومن ثم فلا الاستفتاء سيسقطه إنْ صوّت الشعب برفض مشروع الدستور .. ولا غضبة الجماهير الراهنة ستزيحه من الحكم حتى لو أحرقت مقراته ومكاتبه ؛ صحيح أن تلك الغضبة الهائلة وتلك الحالة الثورية قد أعلنت للعالم أنه نظام مرفوض لكن إزاحته نهائيا تتطلب استعدادا مختلفا ودوافع إضافية ؛ وربما لو كانت قرارات رفع الأسعار قد سبقت إصدار الإعلان الدستورى أو واكبته لاختلف الوضع .. وهو ما يمكن أن يحدث فى وقت لاحق.
– من ناحية أخرى أصاب الإحباط الكثيرين بعد ظهور نتائج جولة الاستفتاء الأولى على الرغم من يقينهم من نية التزوير ومعرفتهم برفض الكتلة الأساسية من القضاة الإشراف عليه وتأكدهم من تدنى الوعى السياسى فى القطاعات الريفية والأقاليم بل واستنكاف قطاعات شعبية أخرى عن المشاركة فى الاستفتاء.. وهو ما يعنى خطأ التعويل على شفافية الاستفتاء ومن ثم على نتائجه.
– إن الأزمة الراهنة تتمثل من زاوية ما فى الحرج البالغ لموقف الإسلام السياسى وجماعة الإخوان حيث أن التراجع عن الإعلان الدستورى لم يكن مطروحا لديهم ولا كان ممكنا من الناحية السياسية فى ظل التدهور الملموس فى شعبيتهم واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التى يعولون عليها بشدة – فى ترجمة دستورهم لقوانين ملزمة – ويخشون من نتائجها.
خلاصة القول أن فكرة التراجع كانت ستسئ إلى وضع ذلك التيار بشدة وستصب الماء فى طاحونة الثورة.
– ومن ناحية أخرى – ولأن التراجع عن الإعلان الدستورى- من وجهة نظرهم – مرفوض بل وغير ممكن عمليا – فإن الاستمرار فى الهجوم هو الإجراء الوحيد المتاح أمامهم.. سواء على القوى السياسية والأحزاب و القضاء و حقوق الشعب وحرياته وحشوده ، وأصبح هو الاتجاه الإجبارى الذى تندفع إليه كل فصائل ذلك التيار دون استثناء.. استنادا لكل المعطيات السابقة وإلى يقينهم أنها فرصتهم الوحيدة التى انتظروها طويلا ويجب ألا تفلت من أيديهم .
لذلك فالاستمرار فى الهجوم ليس خياراً لذلك التيار فى تلك اللحظة لأن إعلان الحرب يعنى- مهما كانت المفاجآت – الشروعالعملي فى تنفيذ خططه: بأخونة الدولة والهيمنة على مصادر الثروة واحتكار السلطة وقمع الحريات والسطو على عرق الشعب .. ولن يسفر ذلك إلا عن مزيد من الكراهية الشعبية لهوتصاعد الاحتجاجات؛ ناهيك عما تفرزه جرائم وحماقات ذلك التيارمن فوائدتصب نتائجها فى صالح الثورة.
من هنا كان التراجع ضارا والهجوم أشد ضررا وهو ما شكّل عقدة موقف ذلك التيار عموما وجماعة الإخوان تحديدا فى الأزمة الراهنة.
– ومن الجهة المعاكسة فضغط الجماهير واحتجاجها- ضد الإعلان وجملة الإجراءات الأخيرة – لو كان قد نجح فى إجبارالإسلاميين على التراجع لاعتُبر انتصارا حقيقيا على النظام له نتائجه الإيجابية على الثورة وجماهيرها أما لو لم ينجح – كما هو الحال – وتعرضت للهجوم فسيرفع ذلك من معدل وقوة ردود الأفعال الشعبية ويدفع المزيد منها للانخراط فى النشاط السياسى.
– وفى الحالتين ( التراجع عن الإعلان أو الاستمرار فى الهجوم على الشعب )ستصب النتائج فى حصالة الجماهير وهذا هو مكمن القوة فى موقفها وهو نفسه مكمن الحرج والضعف فى وضع فصائل الإسلام السياسى .
– ولو استرجعنا مفردات حالة الصعود الثورة الثمانية التى ذكرناهاأعلاه لأدركنا أن معسكر الثورة يتقدم ويحرز كثيرا من الانتصارات بينما معسكر النظام الإخوانى السلفى الجهادىيتراجع ويمنى بالهزائم والخسائر ؛ وهو ما يدعو للتفاؤل والبهجة.. ولا يفضى لليأس و الإحباط.
ماذا لو كنا فعلنا.. ولم نتقاعس..؟
وما هى أدوات التقدم على طريق الثورة وإحراز الانتصارات..؟
ماذا لو كنا فعلنا ..؟
فى وقت مبكر من عام الثورة الأول وعلى مدى شهورطويلة أكدنا أن مقتل جماعة الإخوان يكمن فى الريف وشرعنا فى البرهنة علي ذلك، لأن ثورة يناير هى ثورة المدن الكبرى.. ولا وسيلة لحمايتها إلا بتحريك محيطها من سكان الأقاليم والريف لينخرط فى النشاط السياسى الثورى أو على الأقل يستنكف عن دعم الإسلاميين .
ولأن الأزمة الثورية الراهنة قد استحكمت بسبب استمرار سياسات وممارسات نظام مبارك .. بل وزادت عليها أسباب جديدة؛ ولأن إعلان الحرب على الشعب الصادر فى 21 نوفمبر 2012 من رئيس الدولة الإخوانى لعب دور الشرارة التى أشعلت الغضب الشعبى من جهة ؛ ودور القشة التى قصمت ظهر البعير فى صفوفتيار الإسلام السياسى .. ومع انخراط كتل سكانية جديدة فى النشاط لاحظناغياب الفلاحين عن المشاركة الحقيقية وهو ما يدعونا للتساؤل لمَ لمْ يشارك الفلاحون للمرة الثانية؟
أو بعبارة أدق لماذا بددنا سنة ونصف من عمر الثورة ولم نتوجه للريف لمضاعفة الجهد بغرض حماية مركز الثورة فى المدن الكبرى؟
وحيث أن الإعلان الدستورى يتصل بمجال الحريات وبمحاولة فرض دستور يقسم الشعب ولا يلقى رضاه ولأنه موضوع بعيد إلى حد ما عن وعى البسطاء واهتماماتهم المباشرة خصوصا فى القرى والنجوع والعزب والمناطق النائية فلم يكن مادة غنية للدعاية فى أوساط الفلاحين والبسطاء.
لذا فإن تركيز النشاط فى صفوفهم على قضايا الأرض والزراعة ولقمة العيش كان الأجدرمنذ أيام الثورة الأولى وذلك بتوضيح موقف جماعة الإخوان من قانون الإصلاح الزراعى عام 1952 عندما رفضت الجماعة صدور قانون الإصلاح ثم طالبت برفع الحد الأقصى للملكية من 200 إلى 500 فدان للفرد؛ ثم عادت وأصرت على توزيع الأرض المصادرة من الإقطاعيين على الفلاحين الأثرياء وحرمان المعدمين منها ؛ بل وتعالت أصوات بعضهم مؤخرا معلنة أن الإصلاح الزراعى ضد الإسلام ، كذلك فقد لعبت الجماعة دورا هاما فى الدعاية لقانون العلاقة بين المالك والمستأجرإلى جانبالحزب الوطنى عام 1997 ذلك القانون الذى طرد مئات الألوف من المستأجرين من أراضيهم ورفع إيجار الأرض أربعة أضعاف فى عام واحد .
إن كل هذه الأمور بتفاصيلها مدون فى الكتب خصوصا التى أصدرها مؤرخو جماعة الإخوان والاستعانة بها فى فضح تاريخها المعادى للفقراء هو خير وسيلة لكشف شعاراتهم وحقيقة أهدافهم
فى أوساط الريف .
لذلك نرى أننا بددنا الوقت فى دعم مركز الثورة فى المدن الكبرى بمؤيدين ومناصرين من داخله وليس من خارجه فى الريف والأقاليم ..ولو تداركنا ذلك لشهد عام 2012 انتصارا حقيقيا للثورة.. أو كاد.
مثال لأدوات التقدم والانتصار من أحشاء الاستفتاء المزور:
أبرزت نتائج جولة الاستفتاء الأولى رفض محافظتين لمشروع الدستور أولاهما القاهرةإ حدى المدن الثلاث التى شكلت مركز الثورة ( السويس ، القاهرة ، الإسكندرية ) والثانية هى الغربية على الرغم من كونها إحدى معاقل تيار الإسلام السياسى وهو ما اعتُبِر مفاجأة الاستفتاء الأولى بينما كانت المفاجأة الثانية هى الإسكندرية التى كانت متقدمة فى عمليات الفرز حتى الساعة السادسة صباحا بنسبة ( 63 % لـ لا ) مقابل ( 37 % لـ نعم ) .
ويرجع السبب فى مفاجأة الغربية لعنصرين مترابطين : الأول هو مدينة المحلة الكبرىبعمالها وجماهيرها .. والثانى هو دور طلاب جامعة طنطا ونشطاء المدينة المنتشرين فى كل مراكزها الإدارية ( كفر الزيات ؛ السنطة ؛ بسيون، زفتى ، قطور .. وغيرها .. ) والذين لعبوا أدوارا حاسمة فى عاصمة المحافظة ومدنها بل وعدد من قراها وهو ما انعكس على نتيجة الاستفتاء رغم تزويره.
وما جرى فى الغربية كان من الممكن أن يتكرر فى محافظات أخرى أكثر عددا وأوسع مساحة كالدقهلية، ومثال الغربية الحى والعملى يبرز دقة ما طرحناه من أن مقتل جماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسى يكمن فى الريف.. وفى نفس الوقت يدعونا لمراجعة النفس واستئناف النشاط بحمية .. لكن فى مناطق أخرى غير المدن الكبرى.
خاتمة :
شهد الأسبوع الحالى الفاصل بين جولتى الاستفتاء نشاطا هائلا لقوى الثورة كان أبرزه :
1- ما حدث فى الإسكندرية من تيار الإسلام السياسى الذى اعتمد – منذ إصدار إعلان الحرب على الشعب- منطق العنف سبيلا لفض حشود الجماهير الرافضة لمشروع الدستور ؛ فقد تلقى هزيمة شديدة على يد شباب الإسكندرية وأولتراس نادى الاتحاد السكندرى مما دفع جماعة الإخوان لإصدار بيان يندد بتواطؤ الداخلية وانسحابها من ميدان المعركة ( مسجد القائد إبراهيم ) رغم أن أعداد الإسلامين وعتادهم كان يتجاوز أعداد شباب الثورة والأولتراس بشكل واضح .. وهو ما يضيف أسلوبا جديدا لوقف العنف السلفى والإخوانى الذى تجلى أمام المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى وحزب الوفد وحول قصر الرئاسة.
2- فى قرية جنزور بالمنوفية قامت جماهير القرية بثلاثة تظاهرات فى هذا الأسبوع كانت آخرها ليلة الجولة الثانية للاستفتاء 21 ديسمبر وضمت ما يزيد عن الألفى مواطن من مختلف الأعمار والفئات ، علاوة على إقامة عرض فنى ( إخوان كاذبون ) استمر لأكثر من ساعتين ، وتكرر الأمر (مظاهرة وعرض فنى ) فى قرية أبو مشهور المجاورة وهو ما يفصح عن رفض حقيقى لمشروع الدستور ولتيار الإسلام السياسى فى جزء من ريف المنوفية.
3- علاوة على 3 تظاهرات كبيرة فى ثلاث من قرى محافظة القليوبية ( مُشتهر ، شبلنجة ، العمار ) رفعت شعارات منددة بمشروع الدستور وهو شئ جديد على ريف القليوبية لم يحدث من قبل.
لكل ما سبق نتفاءل ؛ ونرى أن المنحنى العام للثورة فى صعود رغم نتائج الدستور المزورة ؛ بينما منحنى الإسلام السياسى فى انحدار برغم تنظيم فصائلهم ورئاستهم للدولة وسيطرتهم على مجلس الشورى وسعيهم الحثيث للهيمنة على أجهزة الدولة والنقابات والجرائد القومية والتليفزيون الحكومى
ورغم استخدامهم لفرمانات الرئيس البونابرتية وبالرغم من استخدامهم للعنف والسلاح الأبيض والرصاص والخرطوش منطقا معتمدا فى فض الحشود ونشر الترويع.
لا يبقى إلا أن نستعد للجولة القادمة جولة الغلاء الفاحش ورفع الأسعار.
المهم ألا نتعجل نهايتهم ..وأن نتوخى الحيطة والحذر ونلتزم بالدأب والمثابرة وإعمال الذهن والجسارة مسترشدين بطلاب الغربية وعمال المحلة وشباب الإسكندرية.
الجمعة 21 ديسمبر 2012 بشير صقر
عضو لجنة التضامن الفلاحى – مصر