عن الجيش المصرى.. والثنائية المفتعلة ( ثورة أم انقلاب..؟ )
تنويه :
فى مقال سابق بعنوان ” حائط الصد الأخير وحديث عن النخب ” نشر على موقع الحوار المتمدن ( بتاريخ 26يوليو 2013 ، العدد 4165 ) تحدثنا عن وجود خمسة لاعبين فى الساحة السياسية المصرية هى ” الجيش ، والإسلام السياسى ، وفلول عصر مبارك ؛ والشعب ، والنخب السياسية ” يملك ثلاثة منهم ( الجيش والإسلاميون والفلول) القوة والقدرة والسلاح للصراع حول السلطة فضلا عن أنهم جزء أصيل من النظام ، بينما الرابع ( الشعب ) الأعزل ليس قادرا على انتزاع السلطة رغم أنه أهم اللاعبين بل وأقواهم إذا ما استخدم كل إمكانياته وطاقته استنادا للأحداث التى جرت منذ 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو ، 26 يوليو2013 …
أما الخامس ( النخب السياسية ) من ليبراليين ، وناصريين ، ويساريين فهو أضعف اللاعبين على الإطلاق لأنه لا يملك القدرة على لعب دور فعال ومؤثر فيما يجرى على الساحة لتباين انتماءاتهم السياسية والفكرية ومواقفهم وصلاتهم الفعلية بالفقراء ؛ وذلك على الرغم مما يملكه بعض قطاعاته من كفاءات سياسية وفكرية هائلة.
ولأن لَغَطا شديدا ثار فى الآونة الأخيرة – حول الأحداث التى جرت فى الفترة من30 يونيو وحتى 3 يوليو 2013 – بشأن تقييمها والاختلاف حول اعتبارها ثورة أو انقلابا عسكريا ؛ بعيدا عن القضية الأصلية والحالة العيانية الجديدة الماثلة أمامنا وأمام العالم كله وهى ( رفض أغلبية الشعب المصرى لحكم جماعة الإخوان وإصرارها على رحيله ) بالإضافة إلى دور القوات المسلحة المصرية ( فى المساعدة على إزاحة الطاغية الجديد) ، و حيث استغرق اللغط طويلا حول تلك الثنائية ، رأينا الإدلاء بتقديرنا فى هذه المسألة رغبة منا فى المساعدة فى إنقاذ وطننا ربما من مصير غامض؛ خصوصا وأن أكبر المعادين للديموقراطية فى العالم وأكثر الداعمين للإرهاب والممارسين له (الأمريكان والإسلام السياسى) هم من يصَدّرون للعالم مقولة الانقلاب وينددون بسفك الدماء ويتباكون على الديموقراطية ويتذرعون بشرعية الصندوق – التى كنستها حشود 30 يونيو وأبطلت مفعولها – رغم أنهم أكثر الناس معرفة بدقة وحقيقة ما حدث وذلك يحتاج منا إلى توضيح الآتى :
1-الهدف الذى سعت الحشود الجماهيرية للوصول إليه ، والإجراءات التى اتخذتها فى سبيل ذلك ، والأبعاد التى وصلت إليها الحالة الراهنة.
2- طبيعة الجيش كأحد أجهزة النظام الحاكم ودوره فى الدفاع عنه ضد أعدائه فى الخارج والداخل، وكيف تجلى ذلك فى الواقع ..؟ ، وهل تتساوى الجيوش فى تلك الطبيعة وذلك الدور أم تختلف ؟ ، وإن اختلفت فما هو السبب..؟
3- ماهية العقيدة القتالية للجيوش عموما وفى الجيش المصرى بشكل خاص ومقارنتها بمثيلتها لدى الجيوش الاستعمارية وقوات مكافحة الشغب والأمن المركزى من الناحية النظرية وفى تحققها العملى ، وتتبع كيفية ممارسة الجيش المصرى لها خلال تاريخه العسكرى الحديث.
4- التطرق لبعض التقديرات عن طبيعة الحرب ودورها وعلاقتها بالسياسة لأحد أبرز الخبراء فى مجال الاستراتيجية والتاكتيك ( كارل فون كلاوس فيتز ) من كتابه الأشهر ( فى الحرب ).
لذلك وتسهيلا للقارئ سيتخلل البندان 1، 2 سياق العرض؛ بينما نتعرض للبندين 3 ، 4 فى فقرتين مستقلتين ( ثانيا وثالثا ) فى التقديم التالى.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
تقديم :
أولا : البديهيات ( المستقرة ) فى مجال السياسة
ومن هذه البديهيات أن النظام الحاكم فى المجتمعات الرأسمالية يتشكل من عدد من السلطات المتكاملة ( تنفيذية وتشريعية وقضائية ) فضلا عن دستور ومجموعة من القوانين تؤطّر ذلك النظام من ناحية وتحدد شكل الحكم وطبيعته وصلات سلطاته ببعضها من ناحية أخرى؛ وذلك كله خدمة لهدف واحد ومحدد هو حماية النظام الحاكم أى تحقيق مصلحة الفئات الاجتماعية السائدة والتى تملك أو تحوز مصادر الثروة المتنوعة وتسيطر عليها وتدافع عنها ضد أية محاولات من خارج المجتمع للعدوان عليها أو من داخله تستهدف إعادة توزيعها بشكل تراه عادلا أو أكثر عدلا مما هو قائم ومتحقق.
*وفى مجتمع يتسم بانعدام العدل أو اهتزاز موازينه فى تقسيم تلك الثروات أو فى توزيع عائدها على مختلف أفراده وشرائحه وطبقاته يدور الصراع بين من يشعرون بحرمانهم منها وبين من يحتكرونها أو يحصلون على الجانب الأعظم منها ؛ ويتخذ ذلك الصراع أشكالا شتى منها ما هو عنيف ومنها ما هو سلمى.
* هذا وتشكل السلطة التشريعية ( البرلمان ) والقوانين التى تصدرها أحد أدوات الدفاع التى يستخدمها النظام الحاكم للحفاظ على مقاليد الثروة ثابتة بين يدي ملاكها دون انتقاص وعلى طرق ونسب توزيعها أو توزيع عائدها ؛ لذا يستميت فى الحصول على الأغلبية داخل البرلمان بكل الوسائل ، بينما يكون للسلطة القضائية دور مكمل فى تعديل أى خلل يكتنف هذا الوضع وذلك بتطبيق القوانين المذكورة لتقوم بعدها السلطة التنفيذية بتنفيذ ما تصدره السلطة القضائية من قرارات وأحكام للإبقاء على الوضع ” مستتبا ” دون اضطرابات.
*وتاريخ ذلك الصراع يبدأ منذ تحولت المجتمعات البشرية إلى مجتمعات طبقية ( بسبب استيلاء البعض على إنتاج وجهد البعض الآخر ) ويظل الصراع قائما طالما بقيت أسبابه قائمة .
ويزخر التاريخ بتجليات عنيفة وسلمية لذلك الصراع بين ثورات واحتجاجات وانتفاضات وبين فترات هدوء ” وسلم ” .
ولا يقتصر ذلك الصراع على طبقات المجتمع الواحد بل يتجاوزه ليدور بين المجتمعات وبعضها حيث العدوان والغزو واحتلال الأرض والسيطرة على ثروات الغير وعلى الأسواق و الأيدى العاملة ؛ وما الحروب التى جرت على مدار التاريخ إلا انعكاسا لذلك الصراع ومنها الحربان العالميتان ( 1914 – 1919 ) , ( 1939 – 1945 ) اللتان استهدفتا إعادة اقتسام أسواق العالم.
ثانيا : العقيدة القتالية للجيوش :
هى خليط من مجموعة من القيم الإنسانية والتراثية والعسكرية تحكم أداء المقاتلين والجيوش فى الحرب وتلعب دورها فى توحيد ذلك الأداء واتساقه أو فى تلقائيته وبعثرته ، وكذلك فى قدرته على مواصلة القتال من عدمه ،ويتضح ذلك من مقارنة الجندى العقائدى بالمحارب المرتزق فكلاهما يعتنق عقيدة قتالية مغايرة استنادا للدوافع التى تُسيره.
وتتشكل العقيدة القتالية الإيجابية من مجموعة من القيم منها ( العدل ) أى عدالة القضية التى تدور الحرب بشأنها ، و( الحق ) أى أن الحرب دفاعٌ عن حق يشرع الخصمُ فى انتزاعه أو استردادٌ لحق سبق للخصم اغتصابُه ، و( الشرف ) أى استخدام الوسائل الشريفة فى القتال بمعنى المتفق والمتعارف عليها دوليا، أى استخدام أسلحة غير محرم استخدامها ووسائل بعيدة عن الخسة والتدنى الأخلاقى سواء أثناء الحرب أو بعد انتهائها خصوصا ما يتعلق بالتعامل مع ضحايا وجرحى وأسرى الخصم ، وكذا الامتناع عن الإسهام أو المساعدة أو المشاركة فى حروب عدوانية أو غير دفاعية.
ومعروف أن العقيدة القتالية يتم تربية المقاتلين عليها (مجندين و محترفين) فى معاهد الدراسة العسكرية أو الوحدات القتالية ويتفاوت مستوى اعتناقها من فرد لآخر داخل الجيش استنادا لمستوى ثقافته وتعليمه وللأهداف التى يتطلع الجندى للوصول إليها فى حياته علاوة على عوامل أخرى كالنشأة والتربية ..إلخ. كذلك فما يتم تعلّمه منها عادة ما يختلف ممارسته عند التطبيق استنادا للتوجهات السياسية التى ينفذها الجيش..وخصوصا فى عصور الاستعمار والإمبريالية والعولمة.
كذلك تتأسس تلك العقيدة فى جانب منها على قيمة ( الانضباط التام ) الذى يعتبر قدس أقداس القيم العسكرية التى تتحكم ليس فى أداء المقاتلين فحسب بل وفى وحدة الجيش وإرادته ونتائجه.
ثالثا :الحرب : طبيعتها وصلتها بالسياسة:
وحيث لم يمارس الجيش المصرى حربا فى الأزمة السياسية الراهنة لكنه أدى دورا ذا طبيعة عسكرية وطابع سياسى لذا نورد بعض أقوال ( كارل فون كلاوس فيتز ) خبير التاكتيك والاستراتيجية الألمانى لتوضيح ذلك.
فى كتابه الشهير ( فى الحرب ) يقول الخبير فى تعريفه للحرب ” أنها ممارسة للسياسة بطرق عنيفة ” ويقربها لذهن القارئ ويصفها بأنها أقرب إلى التجارة منها لأى شئ آخر؛ لكنه يعود للتمييز بينهما قائلا : أن الحرب هى نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم ؛ بينما التجارة نزاع بين المصالح ( كبرى أو صغرى ) وبين الأنشطة البشرية. كما يفرق بينها وبين السياسة فى قول آخر : الحرب وسيلة بينما السياسة هدف.
ويواصل تعريفاته قائلا : أن الحرب ليست فنا ولا علما فقط إنها أكثر من ذلك .. إنها أحد أشكال الوجود الاجتماعى . ويتعرض كذلك لجانبها العملى محددا : الحرب هى عمل من أعمال العنف يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا.
ويرى أن للحرب أبعادا نفسية ومعنوية تنعكس على من يمارسها وعلى من يتعرض لتأثيراتها ؛ كما أن لها أبعادا فكرية ، وينتقل منها إلى دور الشعب المادى والمعنوى فيها فيقول :” للشعب دوره كعنصر وازن فى المعادلات الحربية ” ؛ وأن ” تبلور الشعور الوطنى ككيان جماعى ومقدس يلعب دورا هاما فى الحروب ”
الدور التقليدى للجيوش :
هذا وكانت الجيوش هى الأداة القوية لحماية الأنظمة الحاكمة عموما من أعدائها فى الخارج ، وهى – فى معظم جيوش الدول الكبرى – الوسيلة الرئيسية للعدوان على المجتمعات والشعوب الأخرى الأقل قدرة على حماية ثرواتها وأراضيها وكانت هذه سمة رئيسية لمرحلة الاستعمار فى التاريخ الحديث .. حيث غزت الجيوش البريطانية مجتمعات شتى للدرجة التى كانت مستعمراتها لا تغيب عنها الشمس ، ومنذ عهد نابوليون بونابرت وجيوش فرنسا لم تهدأ غزواتها من مصر إلى فلسطين ومن الجزائر إلى تونس و المغرب إلى وسط إفريقيا إلى آسيا حيث كوريا و لبنان.
وفيما بعد الحرب العالمية الثانية سطعت شمس الولايات المتحدة الأمريكية كوارثةٍ لذلك الاستعمار القديم – من خلال قوتها العسكرية ووزنها الاقتصادي – فتعددت تدخلاتها فى أمريكا اللاتينية وآسيا ( كوريا وفيتنام وغيرها ) واتخذت أشكالا متنوعة من الاحتلال السافر إلى التدخلات الناعمة العميقة ومن الأحلاف العسكرية إلى الاتفاقات التجارية والشراكة الاقتصادية غير المتكافئة التى تحميها وتتكفل باستمرارها ( عصا العز العسكرية ) المتمثلة فى القنابل النووية وحاملات الطائرات والأساطيل والغواصات والقواعد العسكرية ومشاة البحرية وقوات الانتشار السريع، وعملة أمريكية ( الدولار ) لعبت دور المعادل العام لكل العملات النقدية على مستوى العالم.
ولم تكن هذه القوة العسكرية والنووية الهائلة سوى درع يحمى النظام الحاكم فى الداخل الأمريكى من جانب ويصون الاحتكارات الأمريكية فى كل أرجاء الدنيا ويفتح لها الأبواب المغلقة لتستولى على المواد الخام والبترول وتجند العملاء من كل الجنسيات والطبقات وتذكى الصراعات الإقليمية والانقلابات العسكرية من جانب آخر.
*لكن الجيوش فى هذا العالم ( الصناعى المتقدم ) يتقلص دورها فى الداخل منسوبا لدورها الخارجى بسبب ضخامة ما يتم نهبه من شعوب العالم النامى من فوائض تسهم فى رشوة شعوبها ، وعلى العكس من ذلك فى جيوش البلدان النامية والمتخلفة التى تتعرض شعوبها لنهب مزدوج من جانب حكامها و مستعمريها والدول الكبرى المهيمنة على ثرواتها ومصائرها ؛ لذا يتمحور دورها فى غالب الأحوال فى حماية النظام من الداخل لضمان استمرار النهب.. منسوبا لنفس الدور فى حماية النظام من عمليات العدوان الخارجى؛ علاوة على دور آخر مرتبط بالدول الكبرى التى يكون سائرا فى فلكها.
* إلا أنه وفى بعض الأحوال ونظراً لحالة التخلف والتبعية فى كثير من البلدان النامية و بسبب الصراعات العرقية والقبلية والإقليمية والاضطرابات الاجتماعية تمارس جيوشها دورا آخر متمثل فى الانقلابات العسكرية التى تحسم تلك الصراعات أو تنقل تبعيتها للخارج من طرف لآخر.
لماذا تتباين الجيوش ..؟: ولذلك ورغم الطبيعة الطبقية للجيوش.. فى كلا العالمين الصناعى المتقدم .. والنامى ؛ والدور المنوط بها فى حماية أنظمتها الحاكمة .. لا يمكن التسوية بين الجيوش فى الحالتين – ولا حتى بين شعوب كل منها- فالجيوش الاستعمارية لا تقارن بجيوش حركات التحرر الوطنى ؛ لأن من اعتاد العدوان والنهب ليس كمن تمرس فى الدفاع عن الأرض والشعب والوطن ، والجيوش التابعة ليست كالجيوش المستقلة أو ذات الاستقلال النسبى، والجيوش الخاملة تختلف عمن شاركت على الدوام فى الحروب ، والجيوش التى تَضِيق المسافات الزمنية بين معاركها الكبرى ليست كغيرها التى تفصل بين معاركها فترات زمنية واسعة ، والجيوش التى تمرست على الانقلابات العسكرية ليست كالجيوش المستقرة وهكذا .
وهذه التباينات تلعب دورها فى وسم الجيوش بسمات خاصة تميزها عن بعضها رغم احتفاظها جميعا بدورها الطبقى المعتاد وهو الدفاع عن نظام الحكم وحمايته ؛ ومن جانب آخر يمكن أن تلعب أدوارا استثنائية فى بعض الأزمات استنادا لتاريخها وسماتها الخاصة وهو ما نحاول الحديث عنه .
جيش مصر وتاريخ العقيدة القتالية:
*والجيش المصرى كأى جيش فى العالم يتشكل قوامه الأعظم من جنود وصف ضباط وربما جانب من الضباط منتمين للطبقات الفقيرة الكادحة والطبقة الوسطى، لكن قادته حتى لو كانوا -أو كان بعضهم – من هذه الطبقات الفقيرة إلا أنهم- واستنادا إلى التقاليد العسكرية والعقيدة العسكرية – ينفذون سياسة النظام الحاكم .. الذى هو نظام الطبقات المالكة أو الحائزة على أغلب ثروات المجتمع وتستغل فقراءه ، علما بأن الأصول الطبقية لقادة الجيش وثقافاتهم العامة تلعبان دورا فى تعاطفهم أو تجاهلهم للقضايا الاجتماعية والسياسية التى تعتمل فى المجتمع أو يعانى منها الشعب.
*واستعراضنا لتاريخ الجيش المصرى منذ ثمانينات القرن التاسع عشر إبان حكم الخديوى توفيق يوضح دوره فى مواجهة الاحتلال البريطانى وكذا دور قائده- الزعيم أحمد عرابى- فى رفض سياسيات نظام حكم الخديوى ؛ وتوضح المواجهة المباشرة الشهيرة بينهما ذلك بجلاء شديد : ” لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا .. ولن نُورّثَ بعد اليوم ” وهو ما انعكس على موقف الشعب المصرى من الجيش ودعمه له ومشاركته فى المواجهة المعروفة التى نشبت فى كفر الدوار ضد جيش جلالة ملكة بريطانيا الذى منى فيها بهزيمة حقيقية قبل أن تنتقل المعركة إلى صحراء التل الكبير – الأنسب للجيش البريطانى- بعيدا عن المشاركة الشعبية .
الجيش وانتفاضة 1977:
*ليس هذا وفقط فدور الجيش فى انتفاضة 18 ، 19 يناير 1977 يستخلص تلك السمة التى نتحدث عنها، فقد خرج الشعب المصرى فى معظم عواصم الأقاليم من أسوان حتى الإسكندرية فى لحظة واحدة ثائرا ضد حكم السادات بسبب رفع أسعار السلع الضرورية ، وبعد أن انهارت مقاومة أجهزة الشرطة تدخل الجيش ليفرض حظر التجول بعد أن اشترط – قبل تدخله -إلغاء قرارات رفع الأسعار التى رفضها الشعب وهو ما نزع فتيل الأزمة القائمة آنذاك بين الطبقة الحاكمة ممثلة فى السادات وبين فقراء الشعب .
*خلاصة القول أن الجيش أقوى أجهزة السلطة التنفيذية المصرية آنذاك كان له رأى مغاير؛ أولا فى حل الأزمة الناشبة بسبب رفع الأسعار؛ وثانيا فى الدفاع عن النظام الحاكم الذى تم إنقاذه بهذا التدخل.. وهو ما يدعونا للقول أن المجموعات والكتل الحاكمة المشَكّلة لأى نظام ليست شيئا مصمتا ولا متماثلا مهما كان اتساقها معه وليس من المحتم أن تتبنى نفس الأفكار ولا أن تتبع نفس الأساليب أو السياسات فى دفاعها عن النظام والتى تسميه فى أغلب الحالات دفاعا عن الشرعية والدستور والقانون ، وربما الديموقراطية .
*هذا وتتأسس تلك الأفكار والأساليب على نوع المهمات التى تتولاها الجيوش؛ والعقائد التى تتبناها خلال تاريخها الممتد والذى لا يعنى – فى نفس الوقت – أنها أفكار أبدية غير قابلة للتغير.
مائة وثلاثين عاما متصلة من العداء للاستعمار:
* والجيش المصرى الذى شارك خلال مائة وثلاثين عاما فى عدد من الصراعات التى كان الشعب طرفا فيها- بشكل مباشر أو غير مباشر – وعاش طيلة هذه المدة مناخا معاديا للاستعمار وشارك فى مقاومته ليس فقط بعد الثورة العرابية (1881) بل وقبلها فى 1798 وحتى 1802 ضد الحملة الفرنسية .
*هذا وعندما استأنف الزعيمان مصطفى كامل ومحمد فريد كفاح العرابيين؛ وأكمله بطريقته كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس ورفاقهما اندلعت ثورة 1919 التى تمخضت عن دستور 1923 أفضل الدساتير فى تاريخ مصر الحديث وخلال هذه الفترة شهدت مصر حملات تنويرية مضيئة بدأها سلامة موسى وقاسم أمين وشاركت النساء فى الثورة وكانت رمزا للتقدم وفخرا أطال أعناق المصريين خارج الوطن؛ والتى استنشق الجيش المصرى أثناءها روائح هذه الحركة الوطنية المتأججة والمتواصلة.
* كذلك وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945 ) استأنفت الحركة الوطنية نشاطها ضد المحتل البريطانى مستفيدة من تاريخها الطازج حتى وصلت لحد الكفاح المسلح فى منطقة قناة السويس إضافة إلى حرب فلسطين عام 1948 وانتهت تلك الموجة بحركة الجيش عام 1952 التى كانت من زاوية ما احتجاجا على الفساد وتقاعس القصر وكثير من الساسة فى الإعداد لحرب فلسطين، ثم شارك فى حرب تأميم قناة السويس عام 1956 ، وبعد أربع سنوات فى دعم شعب اليمن ضد التخلف عام 1962 ، ثم فى عامى 1967 و 1973 ضد الصهاينة وهو ما يعنى تشكيل عقيدة قتالية وطنية ضد الاستعمار أى ضد الغزو والعدوان وكسر الإرادة ، ولو أحصينا من أُسروا واستشهدوا وفقدوا فى تلك الحروب لأدركنا أنها غطت كامل الأرض والأسر المصرية، على العكس من كثير من الجيوش الغربية التى لم تعش مثل هذا المناخ سوى عشر سنوات هى عمر الحربين العالميتين واللتين كانتا فى جانب أساسى منهما حروبا عدوانية هدفها إعادة اقتسام أسواق العالم؛ كذلك فإن الجانب الثانى ( الإيجابى ) لهذين الحربين يتعارض مع جملة الحروب والغزوات الاستعمارية التى غطت قارات العالم قبل الحرب الأولى وبعد الثانية وما بينهما ؛ وهو ما يعنى تشكّل عقيدتها القتالية على الغزو والعدوان والاحتلال وقمع الشعوب الفقيرة ونهب ثرواتها والتعالى عليها.. والاعتداد بتلك ” الإنجازات ” والافتخار بها أكثر منه دفاعا عن الشعب والأرض ..إلخ ، ولذلك لا يمكن مقارنة العقيدة القتالية للجيش المصرى بمثيلتها لدى الجيوش الاستعمارية كالولايات المتحدة الأمريكية و انجلترا وفرنسا وأسبانيا و البرتغال وإيطاليا وغيرها.
كيف نقرأ قرارات قادة الجيش المصرى الأخيرة .. دون المصادرة عليها..؟ :
صحيح أن الجيش فى كل الأحوال ينفذ أوامر جنرالاته وقواده وسياسات النظام الذى يدافع عنه ويحقق مصالح الطبقات المالكة والقابضة على ثروات البلاد والممسكة بزمام الحكم فيه ؛ لكن سمات أخرى وخصالا مغايرة تشكلت فى الجيش المصرى مقارنا بكثير من جيوش العالم وهو ما يعنى ضرورة الحذر فى استقبال تصريحات قادة الجيش وقراراتهم وتحليلها بمنطق يختلف عما يمكن به قراءة وتحليل شبيهتها الصادرة من قادة جيش استعمارى أو غارق حتى آذانه فى الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية أو بلا تاريخ.. بمعنى أن استقبال و بالتالى قراءة تلك القرارات فى مثل تلك الأزمات التاريخية التى نعيشها يتطلب ربطها بالشروط الملموسة التى نبعت منها ولا يجب أن يستقى أسبابها – أو يرتد بشكل ميكانيكى – للقاعدة الأساسية لفهم دور الجيوش عموما وهى ( حماية النظام ) إلا كخلفية عامة وليس كسبب مباشر.
* كذلك فرغم أن أحد الأسس التى تنبنى عليها عقيدة الجيش هى الانضباط الحديدى بما يعنى التزام كل أفراده من قمته إلى قاعدته بتنفيذ سياسة وإجراءات واحدة إلا أن الأصول الطبقية والثقافة الخاصة لكثير من جنوده و بعض ضباطه تساهم فى أوقات الأزمات فى خلق ميول عامة تختلف عن الميول السائدة داخله فى أوقات السلم ؛ وانطلاقا من ذلك تفضى لاتخاذ مواقف تبدو معاكسة لما اعتادت اتخاذه.
* وعلى سبيل المثال : فى الأيام الأولى لثورة 25 يناير قص لى أحد الأصدقاء كانت له صلات بعدد من ضباط الجيش: بأن مناقشات كثيرة دارت فى العديد من وحدات الجيش المصرى – بدت فى وقتها طبيعية – حضرها عديد من صغار ومتوسطى الضباط وكانت أقرب لجس نبضهم حول سؤال محدد يقول: هل تنفّذ.. لو صدرت لك الأوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين ؟ وكان رد 90 % على الأقل منهم : لا.
وهذا يختلف بالقطع عن الحال فى أية جيوش أخرى كثيرة عربية وغربية وإفريقية ؛ ولا يمكن إرجاع ذلك إلا للعقيدة الوطنية القتالية لكثير من رجال الجيش المصرى.. تلك العقيدة التى ظهرت طيلة المدة من ثورة عرابى وحتى الآن حيث تأججت الحركة الوطنية منذ ذلك التاريخ وتصدى فيها الجيش لجيوش أخرى فرنسية وبريطانية وصهيونية ولم يخرج عن هذا السياق سوى فى المشاركة فى حرب عاصفة الصحراء عام 1991 ضد الجيش العراقى؛ حيث لم يزج به فيها سوى موقف مبارك الذى كان يطمع فى تخفيض الديون وكسب رضى الولايات المتحدة للاستمرار فى الحكم ؛ وبرر التدخل بكون دولة العراق معتدية على شقيقة أخرى عربية هى الكويت .
العقيدة القتالية لقوات مكافحة الشغب والأمن المركزى:
* كذلك فهناك فارق واسع بين جيش القوات المسلحة وجيش الأمن المركزى أو فرق مكافحة الشغب التى – فى تقديرنا – تختلف فى عقيدتها القتالية عن القوات المسلحة لأسباب كثيرة.. أبرزها المهام التى تقوم بها فى قمع المظاهرات وحصار الاحتجاجات التى تتفجر دائما فى مواجهة النظام الحاكم مباشرة.
* كذلك يهمنا أن نتطرق – فيما يلى – لجزئية هامة تتعلق بالصلة بين قيادة الجيش ( المجلس الأعلى للقوات المسلحة ) وبين بقية جسده المتمثلة فى كون الأغلبية الساحقة من الجنود وصف الضباط والرتب الوسطى من الضباط ينتمون للفقراء والطبقة الوسطى .
كيف يتكيف القادة مع سياسات النظام أيا كانت توجهاتها..؟ :
* ولأنه فى أى جهاز من أجهزة الدولة بل وفى السلطات غير التنفيذية كالبرلمان و القضاء تتعرض القيادات بشكل مكثف لحصار من الامتيازات الذى تحكمه قاعدة ثابتة مضمونها ( أن الولاء للنظام هو سلم الترقى والصعود لمواقع القيادة ) وهو الوسيلة الناجعة لامتيازات أكبر مثل التعيينات فى مراكز السفراء والمحافظين ونوابهم ورؤساء المدن ومجالس إدارات الشركات ورؤساء المرافق العامة وغيرها ؛ وتصير مثلُ هذه المنح محل تنافس شديد فى الحالات التى يختفى فيها الصراع مع القوى الاستعمارية وفى ظل غياب القضايا القومية والمشروعات الكبرى التى يلتف حولها الشعب ( كبناء السد العالى أو تشييد صناعة للحديد والصلب والألومنيوم) ويكف فيها المجتمع عن التطور والتقدم – كالسنوات التى سبقت ثورة 25 يناير – وهو ما توفره فترات التحولات السياسية والاجتماعية التى تنشد الارتباط بالغرب أو تشرع فى التهادن والتحالف مع الأعداء.
* ولأن لتلك العوامل دورا فى ارتباط كثير من القيادات- فى السلطات- الثلاث بالأفكار والسياسات المهادنة أو المتعاونة أو المتحالفة مع أعداء الشعب والتأثر بها والتى لا يستثنى الجيش منها.. فإن الأمر يختلف مع القيادات الوسطى وصغار العاملين نظرا لوجودهم أو اقترابهم من سواد الشعب والتفاعل المباشر مع همومه وأوجاعه. ولا يعنى ذلك عدم إفلات البعض من تلك القاعدة – لأن لكل قاعدة استثناءات- فى كلا النوعين ( أى القيادات الكبرى و الوسطى ) كما ظهر جليا فى أعقاب مشاركة مصر فى الحرب ضد العراق.
ماذا فعلت حشود 30 يونيو وماذا فعل الجيش ..؟
*ولأنه أصبح – من المعتاد الآن فى مصر- بالنسبة لأى رئيس يعتلى الحكم بإرادة الشعب أو رغما عنه أن يغادره فور ثورة الشعب ضده كما حدث منذ 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013 ، كما بدا واضحا وضوح الشمس أن موازين القوى السياسية قد تعدلت- بدرجة ما – منذ 30 يونيو وحتى الآن ومن الطبيعى أن تتغير فيما هو قادم من الأيام بناء على طبيعة الحوار الذى سيدور بين أهم أطراف المعادلة الراهنة (الشعب والجيش والنخب السياسية ) سواء كان الحوار عمليا أو تفاوضيا.
*ولذلك نرى أن التعامل مع جملة المعطيات التى أفرزتها ثورة الثلاثين من يونيو هى الأدعى للتعامل ؛ درءا للانجرار فى متاهة تشتيت الجهود والانتباه فى تفنيد الثنائية ( ثورة أم انقلاب ..؟ ) خصوصا وأن الحشود الشعبية آنذاك لم تكن تضمن بمفردها تنحى جماعة الإخوان المسلحة عن كراسى الحكم وهى المدعومة ماليا وإعلاميا وسياسيا بقوى خارجية تستميت فى استمرار حكم الجماعة وقلب الحقائق.
*ولأن أحداث ثورتى 25 يناير و 30 يونيو قطعت – بما لا يترك مجالا للشك – بأن الانتفاضات التلقائية أو ضعيفة التنظيم لم تتمكن من إزاحة الطغاة إلا بمساعدة من خارجها ثم تتعثر فيما يعقبها من خطوات مفترضة ومنشودة ولا تفضى إلى مسار متماسك يحقق أهداف الثورة ، وهو ما يشكل الحدود التى يقف عندها ميزان القوى الطبقية القائم و يفرض ضرورة انتزاع سلاحين آخرين هما التنظيم والوعى لتعديل ذلك الميزان ولكى تتجنب فى المرة القادمة مزالق الانتفاضتين السابقتين ، وفى نفس الوقت لا يعنى الاستسلام لهذا الأمر الواقع.
* ولأن ذلك المسار لا يحفره ؛ وتلك الأهداف لا يحققها إلا قوى منظمة وواعية تملك تصورا وخبرة و أدوات وقدرة على مقارعة القوى الأخرى وتستطيع إدارة الدولة بمجرد إسقاط الطغاة ؛ وهذا ما لم يتوفر حتى الآن لحشود الثورة وقادتها ، فإننا نحتاج للتذكير بالماضى القريب لندرك الأسباب ونتعرف على مواطن الضعف ونتجنبها.
* يشير هذا الماضى القريب إلى الآتى : ( لو أن عبد الناصر لم يحل الأحزاب عام 1953 ولو وفّر للشعب حياة سياسية صحية ومتجددة يشارك فيها ؛ بدلا من دفعه لتشجيع الكرة ومشاهدة المسلسلات التيليفزيونية لتبديد وقت الفراغ والتنفيس عن همومه ؛ لو أنه فعل ذلك لَقطَعَ الطريق على السادات وعلى سياساته ؛ ولمَا خرج الإخوان من السجون ولمَا عاثوا فى مصر فسادا وسمموا أفكار الشعب ، ولمَا عيّن موظفا أميا فى السياسة نائبا له ؛ ليصبح رئيسا للجمهورية بعد مقتله على يد صبيان من أخرجهم من السجون ، ولمَا انتشر الفساد واستشرى الاستبداد وانهار التعليم ومعه صحة المصريين ؛ ولمَا تحولت مصر إلى عزبة مُعدّة للتوريث نصفها جوعى وربعها بلطجية ؛ ولمَا تم تهديدنا بسلاح ” أنا أو الفوضى ” ، ولمَا ابتزّنا الأمريكان بمعوناتهم وطابورهم الخامس وولّوا علينا الإخوان ولمَا ” نخ ّ ” المجلس العسكرى السابق وهادَن .. إيثارا للسلامة ، لنجد أنفسنا فى آخر المطاف فى الوضع الحالى نشعر بالظلم الشديد وقلة الحظ الأشد وعندما نثور عليهما لا نعرف كيف نخطو الخطوة التالية لمناقشة قضايانا وحل مشاكلنا وترتيب بيتنا من الداخل بتعيين حكومة جسورة ورئيس وزراء كفء قادر على المبادرة لنكرر بعدها مقولة سعد زغلول ” مفيش فايدة ” )
*من هنا فإن من أسميناهم باللاعبين الثلاثة ( فلول مبارك ، والإسلاميين ، والجيش) ينتمون عضويا للنظام الحاكم فأولهم هو الجناح “اليمين ” المدنى للنظام والثانى هو الجناح الدينى “الفاشى” والثالث هو درع النظام وحامى حماه ضد أعدائه فى الداخل ” الحركة الشعبية ” وفى الخارج ، ونظرا لاصطدام الشعب بثلاثتهم منذ 25 يناير2011 و حتى الأحداث الأخيرة ورغم أن الجيش – استنادا إلى القرابة الطبقية – أقرب إليهما منه إلى الشعب إلا أنه اتخذ موقفا هو الأقرب للشعب وهو الأفضل للنظام ومستقبله حتى ولو أفضى ذلك لتصفية الجناح الفاشى .. ذلك هو المشهد الراهن أم أن هناك مشهدا آخر ..؟.
*وإذا كان الجيش قد أعلن بالصوت العالى وشدد على أنه لن يتولى الحكم ولا يطمح إليه كما أعلن انحيازه لأهداف الثوار واستعداده لحماية الثورة ورفضه لتدمير بنية الدولة المصرية وأكد بأنه لن يطلق رصاصه على الشعب وهو عمليا قد ساعد الثوار على إزاحة حكم الإسلاميين الذين تجاهلوا حقوق وحريات الشعب؛ واتضح أنهم كانوا يعدون العدة للمواجهة؛ ومن هنا وجب التمسك بما تعهد به الجيش وأعلنه بشأن موقفه ليكون أساسا للحوار المتوقع – بين الشعب والجيش والنخب السياسية التى شاركت عمليا فى الثورة – وأعتقد أنه سيكون حوارا شاقا وكاشفا لما تحبسه الصدور استنادا لتصور كل طرف وخلفياته السياسية وتقاليده وأدواته واستنادا لسابقتين .. الأولى قديمة : متعلقة بالمرحلة الانتقالية الأولى فى أعقاب 11 فبراير 2011 ، والثانية: حديثة مرتبطة بالإعلان الدستورى الأول للرئيس المؤقت و باختيار رئيس الوزراء الحالى وبشعار المصالحة الذى يحمل فى طياته من التهادن والمخاطر الكثير ويحتاج لشجبه ورفضه ويدفعنا لاستبداله بشعار التطهير بمعناه الواسع أى فى ارتباطه بالتمويل والتسليح والنشاط السياسى لمن يُرادُ لنا إبرام المصالحة معهم ..
لكل ذلك ولأن الوقت ضيق والمهام شاقة ومتعددة والأعداء متربصون وجب علينا أن نبحث عن أفضل الطرق لإدارة ذلك الحوار واختيار الأدوات والشكل الأنسب له مع الجيش والنخب السياسية.. وأن نكف عن الانزلاق فى اللغط الدائر حول الثنائية المفتعلة .. ثورة أم انقلاب ..؟.
الأربعاء 31 يوليو 2013 بشير صقر