قراءة جديدة لوقائع قديمة في ألمانيا الغربية ( 3-3)
تمهيد لا بد منه :
تضمن الجزآن الأول والثاني من ( رحلتي لألمانيا الغربية عام 1964 ) العبارتين التاليتين:
•[ شتان الفارق في الكتابة بين شاب صغير وشيخ مسن حتي لو كانا نفس الشخص.]
•[إن الصياغة هي الشئ الوحيد في عملية الكتابة الذي لا يمكن السيطرة عليها بإحكام مطلق؛ مهما كانت كفاءة صاحبها حتى لو كانت تتعلق بموضوع تمت كتابته مرتين يفصل بينهما شهر واحد لأنها لصيقة بعمر الإنسان وحالته المزاجية.]
وهو ما أود تذكير القارئ به ليتفهم لمَ عرضتُ التجربة كما جرت وقائعها وأحداثها في البداية ؛ ولماذا استكملتها بهذا الجزء الأخير الذى يبرز الفارق في الظروف والتناول بين مرحلتين في عمر الإنسان..؟ فالوقائع ثابتة لكن المتغير هنا هو ما أضافه لي الزمن .
كذلك فقد سعينا في تلك القراءة لتناول قضايا عامة تتصل بطبيعة الأفراد والمجتمعات التي يشملها أطراف الرحلة التدريبية، وللأفكار والسياسات التي تحكمها سواء بشكل مباشر أو موازي، وكذلك للمنطق الذي حكمَنا في تناول تلك القضايا والمجتمعات محل المناقشة. وقد يبدو للقارئ أننا جنحنا بعيدا عن الرحلة لكن الحقيقة أننا استعنّا ببعض الأمثلة من مجتمعات أخري ولقضايا نوعية لتبيان ما نقصده بدقة.
عن هلع الألمان فور سماعهم اسم الفوهرر(Führer ) .. واستغراب المصريين :
عندما كان يلتقي بعض المصريين في رحلتنا عام 1964 مع عدد من الألمان في تجمع عابر أو بالمصادفة ويأتي اسم الزعيم أدولف هتلر (Adolf Hitler )؛ أو يخطر ببال أحدنا الاستفسار عن دلالة الصليب المعقوف (Creutz Gebeuget ).. ولو بشكل عارض .. ينفضُّ ذلك التجمع في التو واللحظة بشكل يشابه تسامى كرة من النفتالين في تحولها من جسم صلب إلي غاز دون المرور علي الحالة السائلة.
كان الاسم مثار هلع شديد للألمان بما يعنيه ذلك من استحضار لتاريخ بائس قريب ؛ قوامه الحرب وتدمير ألمانيا ونصف أوربا ؛ علاوة علي خشية المتجمعين من المسئولية باعتبار ذلك نوعا من الحنين لزعيم مس أفئدة غالبية الألمان – في لحظات استثنائية – بالرغم مما أفضت له سياساته من تسوية كل التقدم الصناعي والزراعي والعسكرى والهيبة السياسية لألمانيا بالأرض ..وهو ما استلزم إعادة البناء من جديد ؛ ناهيك عن تضميد جراح وأحزان اليتامي والثكالي والأرامل والمشردين.
باختصار كان الجمع ينفضّ فورا وبلا مقدمات أو شروح.. وهو ما أثار لدي المتدربين المصريين أسئلة لا تجد جوابا واضحا.
ولكي ندرك ذلك بشئ من التفصيل لابد من البحث في التاريخ والإجابة بالتدريج عن الأسئلة التالية لمعرفة ما الذي كان يحكم الألمان والمصريين- من اعتبارات- خلال الفترة التي قضينا فيها 7 شهور تبدأ من مارس 1964.
س1 :
لماذا يختلف تقييم الوقائع في زمن عنه في زمن تال ( آخر) وإبان الشباب عنه في مرحلة الشيخوخة..؟
ج1 :
من البديهي أن أية وقائع تجري في مكان محدد ( ألمانيا الغربية ) في فترة زمنية محددة ( 1964) هي بنت ذلك الزمن بشخوصه التي كانت أطرافا فيها ؛ وبالقوى الاجتماعية الموجودة ؛ وبالتيارات السياسية السائدة وبالأحزاب الممثلة لها؛ وبالظروف والأوضاع العامة للمجتمع بل وبالظروف المحيطة بالدائرة الأوسع كالدول المجاورة والمؤثرة وبالاتفاقيات التي تم إبرامها بين الدولة المعنية ( ألمانيا ) وتلك الدول . وشتان الوضع آنذاك ( 1964) أي بعد الحرب العالمية الثانية وبين الوضع الراهن ( 2019).
فالحزب النازي الحاكم لقي هزيمة عسكرية منكرة – بعد أن غزا نصف أوربا واحتلها – أدت لانهيار اقتصادي وهزيمة سياسية لم تحدث من قبل؛ فانتحر زعيمه ؛ واختفي بعض قادته من ألمانيا وتشتت أعضاؤه ما بين مستسلم ومستنكر ونادم ومتشبث بسياسة الحزب بينما لقي معظم هؤلاء وغيرهم الموت. فضلا عن حملة استمرت أعواما لمطاردة فلوله داخل ألمانيا وخارجها.. وقد صاحبها حملة إعلامية مهووسة نكلت بهم معنويا في وسائل الدعاية الأوربية والأمريكية . إلا أن هؤلاء جميعا لم يشكلوا سوى نسبة محدودة من الشعب الألماني ؛ بما يعني أن أغلبية الشعب من المواطنين هم من عانوا من آثار الحرب دون أن يكون لهم دخل في إشعالها .. بل- علي العكس- كانوا وقودها في الجيش والمصانع. ففقدوا أعمالهم بسبب تدمير كثير من مقومات الاقتصاد كما فقدوا منازلهم ومدارسهم ودخولهم وباتوا في وضع المشردين.
وبعد ذلك لم يكن طريقهم لترميم وطنهم وإعادة بنائه وتعميره مفروشا بالورود ؛ بل كانت اتفاقيات الصلح – والإذعان- التي أُبرِمت بين ألمانيا وأعدائها مهينة وخانقة مصحوبة بحالة من الثأر والتشفي خصوصا فيما أتاحته – في ظل احتلالها من أربعة دول – من اغتصاب للنساء وتشغيل للأطفال بشكل أقرب للسخرة.
فمثلا – وفي ظل احتلال ثقيل الوطأة من 4 دول- تم تحديد أعداد الجيش الألماني وصاحبه تدمير آلاف المصانع( 1500 مصنع ) للأسلحة والصناعة الثقيلة؛ علاوة علي انفصال الجزء الشرقي منها مكونا جمهورية ألمانيا الاشتراكية؛ وضم مقاطعة الإلزاس/ اللورين لفرنسا ؛ ومقاطعة ( سوديت ) لتشيكوسلوفاكيا ؛ بينما خضع إقليم ( سارا) للإشراف الفرنسي وحُرِم سكانُه الألمان الذين فروا منه ( حوالي 10 مليون ) من العودة له. هذا إضافة إلى فصل النمسا – التي كانت جزءا من ألمانيا قبيل الحرب- عنها وتقسيمها لأربعة أجزاء محتلة من التحالف الأمريكي الفرنسي البريطاني ..وهكذا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وُقّعت جزاءات ثأرية بديون – تدفعها ألمانيا – المدمَّرة – لفرنسا والاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة الأمريكية – تبلغ بأسعار اليوم ما يتجاوز مائة وخمسة وعشرين مليار دولار.
لقد كان لممارسات الشهور الأخيرة في الحرب – عندما مالت الكفة ضد الألمان – آثارٌ نفسية ومعنوية هائلة تبعها – بعد الحرب – غرور و( تعالي) تمارسه الدول المنتصرة انعكس علي الشعب الألماني في ردود أفعال متحفظة إزاء الأجانب عموما امتد علي استقامته- فيما بعد – ليغدو تعاليا ألمانيا شديدا علي أبناء البلدان النامية ؛ وهو ما لم يعرفه المتدربون المصريون عن تلك المأساة لأسباب شتى- تعليمية وثقافية وعُمْرية – في ظل إشراف مصري غائب.
لقد كانت معاناة الألمان أقرب لمعاناة مَنْ كان وحشا – اقتصاديا وسياسيا وعسكريا- يخشاه الجميع ونالت منه الهزيمة ولم يجد منفذا للتنفيس عن تلك المعاناة سوي أجانب من العالم النامي لا تشكل دولهم إلا وزنا هامشيا في ميزان القوي العالمي في ذلك الوقت .
خلاصة القول أن ذلك الوضع المأساوي للشعب الألماني في أعقاب الحرب لم تكن تفاصيله معروفة لنا نحن المتدربون المصريون حيث برامج التعليم المصرية لا تتناولها إلا باختزال مُخِلّ لا يعطي فكرة حقيقية عن حجم الدمار الذي خلّفته الحرب وفظاعة النتائج المترتبة عليها.
س2 :
ما الذي استجد علي الوضع في أوربا..؟
ج2 :
منذ الألفية الثالثة – أي مما يقارب العشرين عاما- أو قبلها بقليل .. تغير الوضع نسبيا في ألمانيا التي استعادت قسطا كبيرا من وزنها الاقتصادي في صدارة القارة الأوربية ؛ واستثمرت عزلتها الدولية الإجبارية في إعادة البناء – بعد أن كانت قد قبلت وعلي مضض – القواعد العسكرية الأمريكية علي أراضيها بل وانضواءها تحت لواء حلف الناتو – مستردة مراتب متقدمة في مضمار الاقتصاد والثقافة والرياضة والفنون والتقدم العلمي و جزءا من السياسة أعادها إلي وضع قريب مما كان لها قبيل الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945 ) باستثناء وضعها العسكري الذي تراقبه الدول الغربية بحذر– خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية- والمتمثل في الصناعات العسكرية.
ومن جانب آخر أسفر ذلك النهوض عن :
1-أصوات ألمانية تتعالي داخل ألمانيا والاتحاد الأوروبي تنادي بإنشاء جيش أوروبي مستقل عن حلف الناتو الغربي الذي يضم عديدا من القوات المسلحة الغربية تحت الهيمنة الأمريكية.
2-تراجع دور ووزن الأصوات الشعبية التي تطالب برفع مستوي معيشة الشعب الألماني وعدم الانجرار في السباق الدائر المحموم للدول الغربية الأخري التي تتخذ نفس المسار السابق الذي أفضي للحربين العالميتين.
3-ظهور ثم بروز عدد من القوي والأحزاب القومية في الداخل الألماني ذات الطابع المنغلق والتي ترغب في استعادة الروح الألمانية النازية التي صنعت من ألمانيا ” بعبع ” أوربا والعالم قبل ثمانين عاما قبيل الحرب الثانية مباشرة. وقد تمكنت هذه القوي وأحزابها من استقطاب جزء من الشعب الألماني وشاركت في الانتخابات البرلمانية بل ودخلت البرلمان (Bundestag ) وترجمت ذلك في تظاهرات جماهيرية تبتعد عن سياسة الدولة من ناحية وترفض قدوم المهاجرين من ناحية أخري. هذا وقد وصل الأمر إلي حد تسلل الحزب القومي- النازي الطابع – إلي بعض فصائل الجيش الألماني وضبط أعضائه بوثائق تبرز نواياهم .. حيث خضعوا للتحقيق.
4-باختصار تغير الوضع الآن عام (2019 ) عما كان عليه عام 1964 أي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولذا كانت رؤيتنا لما عاصرناه من تقييم لرحلة المتدربين المصريين طلاب المعاهد العليا الزراعية عام 1964 لألمانيا مختلفة نسبيا عما نراها به اليوم .
س3 :
ما هي الخلفية الفكرية التي تحكم سياسات الدول الغربية ومنها ألمانيا..؟
ج3 :
إن كثيرا من الساسة علي مستوي العالم وخاصة في الغرب يؤججون النعرات القومية ؛ ليس لحفز شعوبها علي العمل والإنتاج والتطور لتعميق استقرار مجتمعاتهم وتوسيع دائرة الحياة الكريمة لهم ؛ ونبذ التمييز والعدوان والغزو؛ والكيل بمكيالين ؛ والتعالي علي الشعوب الأخري ، بقدر استخدامهم تلك النعرات للاستئثار بالأسواق الدولية ونهب الثروات للطبيعية للبلدان النامية واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة بها ؛ وتحويلها إلي مواطن للصناعات القذرة والملوثة للبيئة وإلي مخازن للنفايات النووية .. وهكذا.
وهذا هو لب الصراع الذى كان ناشبا بين الدول الغربية أطراف الحربين العالميتين.. في القرن الماضي .
لقد عُرِفَ عن الشعب الألماني منذ أن كان جزءا من الشعب البروسي ( دولة بروسيا كانت تضم ألمانيا والنمسا) أنه معتد بنفسه ومعتز بقوميته لكنه ومنذ ظهور النازية علي يد الفوهرر(Führer ) أدولف هتلر عام 1933 تخلقت لديه نزعة التعالي الملازمة للروح القومية العدوانية . وشتان بين الاعتداد بالنفس – الذي يظل مقتصرا علي الذات ولا يضير أحدا – وبين التعالي- الذي تلازمه الروح العدوانية- و يمس الآخرين ويسبب الأذي لهم ..إلخ.
•رؤي منطقية تخلقها بديهيات تربوية وتعليمية:
كنا ونحن علي مقاعد الدراسة الإعدادية ..نصادف أساتذة أجلاء متمكنين من مادتهم العلمية ؛ وأتذكر أن بعض معلمي اللغة العربية – وإزاء شكاوى الطلاب – ومنهم المتميزين – من صعوبة مادة النحو والإعراب- كانوا يعلموننا قاعدة ذهبية للتغلب علي الصعوبات التي نشكو منها في تلك المادة تتمثل في الآتي:
لكي تقوم بإعراب كلمة في جملة في سياق ما.. يتطلب الأمر:
•قراءة الجملة قراءة متأنية.. وفهم مقصدها فهما صحيحا وتحديد معني الكلمة فيها.
•إعادة ترتيب كلمات الجملة عدة ترتيبات مغايرة لترتيبها الأصلي .. ثم إعادة قراءتها وفهم معانيها الجديدة مقارنة بما تم فهمه من المعني الأصلي.
•ولأن الإعراب لا يكون صحيحا دون فهم الجملة فهما صحيحا فإن الهدف من إعادة ترتيبها هو تبين معني الكلمة المراد إعرابها فهما صحيحا بمقارنة معانيها في الجمل الجديدة بمعناها الأصلي.
•وبناء علي ذلك فإن التوصل لمعني الكلمة ودورها في الجملة يمكننا من عملية الإعراب بسهولة ويسر.
ونفس الشئ يتم في حالة قراءتنا لأي وضع أو أية أحداث تمر بنا . إذ لابد من البحث عن الدافع وراء كل حدث منها ؛ والبحث عن دوافع أطرافها التي تصرفت بالشكل الذي حدث.. أي تفكيك الحدث إلي مفرداته وعناصره .. والبحث في جذورها لكي نتوصل إلي معرفة دقيقة لما جرى بالكيفية التي جري بها.
ويمكن القطع بيقين بأن فهم الشئ المركب – أو المعقد – يصبح بالغ السهولة إذا ما حولناه إلي عناصره ثم التعامل معها واحدة بعد أخري بشكل مترابط لفهمها؛ وهو ما ينطبق علي محاولة تفهم الأحداث والمشكلات .. بل وأعقد الأشياء ؛ أي أنه قانون عام يسري علي اللغة والأحداث الاجتماعية والسياسية وغيرها.
س4 :
ما الأخطاء الشائعة .. التي قد تفضي لقراءة ضارة لاحتياجات المجتمع وقضاياه .. ونتائج مفجعة..؟
ج4 :
كثيرة هي الأخطاء الشائعة في قاموس البسطاء من الناس؛ لكن المدهش أن تنتشر تلك الأخطاء بين كثير من المتعلمين.. فترى بعضَ الأطباء يطلب من مرضاه ” إشاعة على الصدر – بكسر الألف – ” أو ” أشاعة على الساق – بفتح الألف- ” ؛ ويرد عليه المريض قائلا : تلك هي الأُشاعة (بضم الألف).. بينما الأشعة تختلف عن الإشاعة.. من حيث المعني والنطق.
ولا تقتصر تلك الأخطاء على العامة من الناس بل إنها وصات إلى قمة الهرم الاجتماعي حيث يتداولها كثير من المتعلمين.
وبمثل ما تكثر الأخطاء اللغوية الشائعة في قاموس عامة الناس تكثر بنفس الطريقة في الأفكار ؛ ليس لعيب في الحصيلة العلمية لأصحابها .. بل لانحراف في توجهاتهم السياسية والاقتصادية .
وعلي سبيل المثال فإن أفكار العدوان والغزو والتمييز التي صاحبت سياسات الدول الغربية كان من ضمن منابعها الموجِّهة كتابات العالم البريطاني روبرت مالتوس في القرن التاسع عشر؛ والتي تتلخص في أن الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية هي السبيل لموازنة الزيادة المضطردة للسكان بالزيادة المحدودة في مصادر الغذاء.. باعتبار أن معدل الأولى يفوق معدل الثانية.
واستنادا إلى تلك الأفكار فإن السياسات التي نبعت منها -واتبعتها الدول الاستعمارية قديما وتتبعها الشركات متعددة الجنسية حاليا – تسعى لبلوغ غايتها بأية وسيلة ولا تفرّق بين الموارد ومستخدميها بل وتعْلى من أهمية الموارد على حساب من يستخدمونها وينتجون منها . وهى المسئولة عن تجريد الفقراء في البلدان النامية من ثرواتهم الطبيعية وأسواقهم وحصار إنتاجهم المحلي بدعوي أنهم يتكاثرون بمعدلات أعلى من معدل إنتاجهم.. ومن ثم وجب التخلص منهم؛ وتفضى في نهاية المطاف إلى تدمير البشرية بالحروب والأمراض الفتاكة وبالعدوى المقصودة كإنفلوانزا الطيور والخنازير وبالكيماويات الخطرة التي تقضى على جماعات بشرية كاملة.
ولأن أفكار مالتوس واكبت النهضة الصناعية الأوربية فقد صارت جزءا عضويا من قوانين النظام الاقتصادي العالمي الذي لازَم تلك النهضة وعُرِفَ باسم النظام الرأسمالي.
ومن جانب آخر تكفّل الفكر الإيطالي- الذي كان أسبق من مالتوس – بتطوير عدوانية ذلك النظام علي يد المفكر الإيطالي ميكيافيللي بمقولته الشهيرة [ الغاية تبرر الوسيلة ] والتي تألقت وأعطت أفكار مالتوس بعدا جديدا في عصر التكتلات والاحتكارات الاقتصادية الكبري والتحالفات السياسية المعبرة عنها منذ بداية القرن العشرين.
وهنا نعود لرحلتنا إلي بلاد الجرمان لنتبين ماذا فعلت هذه الخلفيات الفكرية التي تحققت- بأشكال متنوعة – في القارة الأوربية- وانعكست علي شعوبه علاوة علي تسرّبها لكثير من البشر في البلدان النامية لتفعل فعلها وتفضي إلي النتائج التي واكبناها في مجالات شتي ومنها ما صادفناه من مشكلات في رحلتنا عام 1964.
س5 :
ماهي العيوب الجوهرية للمتعلمين المصريين..؟
ج5 :
ضعف الإعداد للمستقبل والأمية السياسية ومن ثم البحث عن الحلول الفردية والانكفاء علي الذات:
أو ما الذي يدفع خريجا جامعيا لعدم التمييز بين مجتمع مستهلك للحضارة وآخر ينتجها ويصدّرها..؟
منذ فُتح بابُ مصر علي مصراعيه للهجرة لدول النفط وملايين المصريين عرفت طريقها نحو الحل الفردي متوهمين أنه يعصمهم مذلة السؤال ويمنحهم الحياة الكريمة.
ورغم أن الكثير منهم حققوا أهدافهم إلا أنهم عادوا من تلك الدول بعاهتين مستديمتين علي الأقل تجُبّان كل ما حصدوه من فوائد. الأولي : هي نسيان معظم ما تعلموه في معاهدهم التعليمية ورجعوا معتمدين علي مدخراتهم أكثر من اعتمادهم علي قيمتهم العلمية وصار معظمهم أقرب للعاطلين .
والثانية :هي تبنيهم لكثير من مفاهيم وتقاليد الإسلام الوهابي الذى لا يحمل من الإسلام سوي طقوسه ومظهره الخارجي ؛ ومن ثم انعكس ذلك علي أبنائهم من الأجيال الجديدة التي هي قوام النهضة المفترضة. وقد تجلت هاتان العاهتان في عدم التمييز بين منتجي الحضارة وبين مستهلكيها. واقرب الأمثلة لذلك هو حديثهم عن أن بلدان الخليج العربي المنتجة للنفط صارت أكثر تطورا من مصر.
وبعيدا عن أية مشاعر شوفينية تتعصب لمصر نوضح الآتي :
•أن نهضة الأمم تقاس بالمعايير الآتية :
1-بما تنتجه من مفردات الحضارة .. في العلوم والآداب والفنون والثقافة والرياضة وتطبيقاتها ؛ ولا تقاس بعدد السيارات الحديثة المستوردة ولا بكمية البنايات الفارهة.
2-كما تقاس الحضارة بكمية الثروات الطبيعية التي يتم استخراجها وتصنيعها محليا وتصديرها للخارج.
3- وبأعداد الكوادر العلمية المتخصصة في جامعاتها ومعاهدها التعليمية والتي تبني مجتمعها وتقدم له الخدمات في مجالات التعليم والصحة والثقافة وتشييد المرافق والعمل في مجال البحث العلمي وتصدير النجباء منهم للخارج.
ولو طبقنا المعايير الثلاثة علي تلك الدول لاكتشفنا مفاجأتين:
الأولي : أن تلك الدول لم تنتج مفردة واحدة من مفردات الحضارة وإنما تستوردها من الآخرين وتستهلكها.
•فلم تنتج تلك البلاد نوابغ في الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء ،ولا مفكرين ومنظرين في مختلف مجالات النشاط الفكري والثقافي، ولا أدباء معروفين ( شعراء وكتاب رواية ) ، ولا فنانين (صناع سينما و وكتاب ومخرجي مسرح وممثلين ورسامين ونحاتين ومطربين وموسيقيين ولاعبي باليه) ، ولا حتي لاعبي كرة بارزين أو أبطال رياضات أخري سوى أبطال سباقات الهجن والصقور والحمام الزاجل.
•كذلك فما تفجرت الأرض به من نفط يتم تصديره ( خام ) بثمن بخس مقارنا بعوائده الهائلة لو تم تصنيعه ؛ رغم أن إيراد يوم واحد منه يؤسس جامعة للبترول وإيراد يوم آخر يشيد عددا من المصانع للتكرير وإنتاج مختلف منتوجاته.. لكن الإحجام عن ذلك يرتبط بعاملين :
1-بمصلحة ضيقة لمصَدّريه تربطهم مع جهات بعينها تساهم وتحمي استمرار تدفقه.
2-وخشية من خلق طبقة عاملة متطورة تمثل قوة اجتماعية متنفذة لها مطالب متنوعة وتملك نقابات تتصاعد قوتها بزيادة أعداد العاملين في مختلف مصانع التكرير والإنتاج. وجدير بالذكر أن ذلك النفط بالنسبة لهم كالنيل بالنسبة لنا .. هبة من الطبيعة .
•ناهيك عن افتقار تلك الدول لمن يقومون بتعليم شعوبهم في المدارس والجامعات ولولا أبناء مصر والعراق وسوريا ما كنت تجد معلما واحدا طيلة اكثر من نصف قرن من أهلها. أما عن تخريج الكوادر العلمية المتخصصة التي تبني مجتمعها وتشيد مرافقه وتدير معاهده الجامعية وتعمل في مجال البحث العلمي وتمد صلاتها للتعاون و العمل بالمعاهد العلمية الخارجية.. فحدث ولا حرج.
والثانية: أن هذه الدول لا تسعي لتطوير نفسها بالتطور لدول صناعية لا تكتفي بتصدير ثرواتها ( خام) بل تصنعها وتعيد تصدير ما صنّعته بأسعار أعلي وهو ما يعود عليها وعلي شعوبها بارتفاع مستوي المعيشة من جانب وتطوير القوي العاملة ورفع مستواها المهني من جانب آخر ، ويستتبع هذا اكتساب الشعب للحريات والثقافة وتذوق الآداب والفنون وارتفاع مستواه الحضاري بما يخلق إحساسا بقيمته ووزنه ودوره بين شعوب المنطقة والعالم . ليس هذا فقط بل إن ارتقاء قيم الشعب وارتفاع مستوي معيشته يسهم في مواجهة وحصار كثير من الأمراض الاجتماعية والسياسية والظواهر السلبية كالبطالة والفساد والاستبداد و التمييز والعدوان والتعالي علي الشعوب الأخري ..إلخ
خلاصة القول أن تلك الدول ليسوا منتجي مفردات الحضارة بل مستهلكين لها.. لم ينتجوا توتوك بل استوردوا سيارة رولز رويس أو لامبورجيه ليركبوها. ولم يشيدوا مؤسسة معمارية بل استأجروا من الخارج من يصممها ومن يشرف علي بنائها بل ومن يبنيها .
فهل يمكن اعتبار من لا يميزون بين مستهلكي الحضارة ومنتجيها قادرون علي تربية أبنائهم .. أو علي اتخاذ أي قرار مصيرى حتي علي مستوي أسرهم ؟ ؛ وهل يمكن اعتبار من يعتمدون علي مدخراتهم أكثر مما يُعوّلون علي تأهيلهم العلمي المتخصص منتمين لوطننا ويعتد بقدرتهم علي إدارة مؤسسة إنتاجية أو خدمية في بلدنا..؟
وعليه فإذا ما أرسِل هؤلاء أبناءهم في بعثة دراسية أو تدريبية لدولة أخرى هل سيكون هؤلاء المبعوثون قادرين علي التعامل مع الشعب الذي يعيشون بين صفوفه بسهولة ويتمكنون من تفهم ما يعترضهم من عراقيل ومشكلات بالبحث عن أسبابها بُغية حلها.. وهل سيتوصلون لتفهم الأسباب التي تدفع الشعوب التي تستضيفهم للتعامل معهم بهذه الكيفية ..؟ ومن ثم لا يتخذون إزاءهم موقفا عدائيا وثأريا بقدر ما يسعون لاستخدام العقل والمرونة وسعة الصدر في تعديل سلوك تلك الشعوب إزاءهم ؟! بل ولفت نظر الدولة لرداءة الإشراف والمعاملة التي يتلقونها من مشرفيهم الموجودين في تلك البلدان المستضيفة لكنهم غائبون لا يحسنون و لا يقومون بأدوارهم..؟
س6 :
هل نضبت مصر من المتميزين .. ليتولوا شئون المبعوثين ؟ ..
ج6 :
مثال موازي:
نجيب عن هذا السؤال بالتعرض لمشكلة واحدة يعرفها كل المصريين وهي أزمة مياه النيل.. التي تشكل خطرا داهما علي أبنائه وعلي استمرارهم في الحياة.
فالمثل الشعبي العالمي يتحدث عن الماء حديثه عن الهواء فهما متلازمان في كل الأوطان وكل الأزمان ولكل كائن حي ؛ ويجري تشبيه التعليم والصحة بهما – باعتبارهما من أهم ضرورات العصر- فيقال أنهما – أي التعليم والصحة – ” كالماء والهواء “.
ولأن مياه النيل تدخل في منعطف بالغ الحرج في قادم الأيام؛ كان من الضروري ذكْر بديهية مائية عالمية تنتشر في المجتمعات التي لا تعتمد علي الأمطار في استهلاك المياه. تفيد البديهية بأن (أولويات استهلاكها توجه للشرب والري الزراعي وبعدها لأي استخدامات أخري) . وعليه توجهت أنظار الدولة في مصر نحو ما يُعدّ هدرا له ؛ ساعية لوقف ذلك . ولذا شرَعَت – في مجال الزراعة – في توفير ما يُهدَر منه في زراعات الأرز تحديدا بإجراء واحد لا سواه هو الحد من مساحة الأراضي المزروعة به نظرا لكونه أكثر المحاصيل احتياجا واستخداما له.
واستنادا لمعلومة علمية أخري تقول أن ( الأرز ليس محصولا محبا للغمر بالمياه بل محصول مقاوم للغمر) نوضح :
أن مهمة توفير مياه ري الأرز لا يمكن إنجازها بتقليص مساحته دون إجراءين آخرين :
أحدهما :استنباط سلالات مقاومة للجفاف ومن ثم لا تحتاج إلا لكميات محدودة من الماء مقارنة بالأصناف التقليدية التي يتداول الفلاحون زراعتها.
والآخر : هو استنباط طرق جديدة في الزراعة توفر المياه.
هذا فمن ناحية.. توصَّل أحد البحّاثة في إحدي الجامعات الإقليمية منذ 5 سنوات لأربعة سلالات ( عرابي 1، 2،3،4 ) تصلح اثنتان منهما للزراعة في الأراضي الرملية وتمت تجربتهما في سيناء وحققا نجاحا باهرا.. علاوة علي تفوقهما في الإنتاج عن كل الأصناف التقليدية فضلا عن صفات أخرى إيجابية.
ومن ناحية أخرى توصلت فلاحة فيّومية عام 2004 لطريقة في الزراعة تسمي ( الزراعة علي مساطب ) توفر 60 % من مياه الري ( حيث استهلك الفدان3500 متر مكعب بينما في طريقة الري بالغمر يستهلك الفدان 9000 متر مكعب ) وطبقتها في أرضها تحت إشراف معهد البحوث المائية الذي وثق التجربة واعتمد الطريقة الجديدة في الزراعة. هذا وقامت الفلاحة المستنيرة بنشرها في قريتها والدعاية لها من خلال المحاضرات في كل مراكز المحافظة ؛ بل وأخطرت بها وزير الزراعة آنذاك.
فكيف كانت استجابة المسئولين في وزارتي الزراعة والري..؟ الصمت والتجاهل التام للباحث وللفلاحة.
وعليه وكما يقول المثل الشعبي ” ما فيش فقر .. دا فيه قلة رأي ” .
هذا وقد تم عرض كل ما سبق وبشكل مسهب في العديد من المقالات بالصحافة الإلكترونية ..لكن تبين أن هناك أسبابا أخرى تختفي وراء تقليص مساحة زراعة الأرز تتعارض تماما مع توفير مياه الري التي أعلن عنها كسبب لتقليص مساحته.
لذا نتساءل : لماذا إذن كنا نُقْصِر اللوم علي غياب الإشراف المصري علي المتدربين في ألمانيا.. أليس ” جميعهم في الهمّ شرق “..؟
صحيح أن هناك فارقا بين مهمة رسمية بالغة الأهمية لا يتم إنجازها بسبب الإهمال كالإشراف علي البعثات التعليمية والتدريبية في الخارج كما هو الحال في رحلتنا التدريبية.. وبين مهمة رسمية أخرى شديدة الحيوية يتم الإعلان عنها والتأكيد عليها في أجهزة الإعلام بينما في الواقع يتم تنفيذ عكسها تماما. لكن المشترك بينما أننا خسرنا فوائد كان يمكن حصدها وأموالا تم تبديدها في الحاتين.
خاتمة :
ونوجز استخلاصنا لتلك القراءة في الآتي :
•أن الخلفية الفكرية التي تجلت – بأشكال متنوعة في المجتمعات الأوربية ؛ ووجهت دولها وجهة مدمرة ؛ وأثرت في شعوبها وكبدتها خسائر وآلاما ومعاناة هائلة- قد انعكست من ناحية أخري علي كثير من مجتمعات بلداننا النامية وأصابتهم بعدواها لتفعل فعلها وتفضي للنتائج التي شهدناها في مجالات شتي في رحلتنا لألمانيا الغربية عام 1964. ولا شك أن الأفكار التي كانت تحكم ألمانيا آنذاك – وكانت تحكمأيضا معظم أطراف الحرب العالمية- هي ما كانت تتحكم في سياستها.. وفي علاقاتها بدول وشعوب العالم المتقدمة صناعيا وأيضا ببلداننا النامية. قد تختلف تلك السياسة من حاكم إلي حاكم ومن حزب إلي حزب عند التطبيق لكنها في التحليل الأخير تتوخي نفس الأسس الفكرية التي تضبط المجتمع ككل.. وتوجّه دفته.
فالمسئولون الألمان بوزارة مساعدات الدول النامية وموظفي الغرف الزراعية سيمتثلون لتلك السياسة علي الدوام. والمزارعون الألمان لن يفلتوا من براثنها لكونها تنتشر كالهواء في أركان المجتمع.
بينما المسئولون المصريون – المتعاملون مع الجهات الألمانية ويتولون الإشراف علي المتدربين- لن ينجوا من آثارها خصوصا وأنهم لا يتمتعون بأي ثقافة مستقلة ومستوى تعليمهم لا يمكنهم من الإفلات منها حتي وإن أرادوا ذلك؛ علاوة علي أن أمثالهم لا تحكمهم سوي المصلحة الخاصة الضيقة الأفق والأنانية .. ويوفَدون لأوروبا بالوساطة ودون اختيارات أو اختبارات شفافة تدقق في كفاءتهم ودون تأهيل حقيقي للمهمة التي تنتظرهم .. لذا تبتلعهم أضواء المجتمع الغربي ويهيمون في طرقاته دون أمل في الإفاقة.
وعليه فماذا يفعل الشباب اليافع من المتدربين الذين ألقي بهم في هذا اليم الذي يتجاوز خبراتهم وتجاربهم وثقافتهم وأعمارهم .. سوي أن يتصرفوا حسبما تقضي الظروف .
من هنا كان الاختلاف في قراءة تجربة رحلتنا التدريبية لألمانيا الغربية عام 1964 عن قراءتها اليوم. فقد سعينا أن ننقلها لكم في الجزأين السابقين بأقصي قدر من الدقة والأمانة وأكملناها بتلك القراءة التي أضاف لها ما استجد علي عمرنا وثقافتنا خلال السنوات المنصرمة.. آملين أن نكون قد وفقنا في الحالتين.
الأحد 12 يناير 2019 بشير صقر