الجزء الأول من مقال: نعم.. الدولة هى التى تقود وتنفذ عمليات طرد الفلاحين من أراضيهم وهدم المنازل فوق رؤوسهم.

ليس غريبا أن يطلق العامة من الشعب المصرى لقب حوت على أى مسئول كبير أو متنفذ صغير أو موظف يتولى عملا له صلة بمصالح الجمهور المباشرة.فطالما تسير حياتهم من سئ إلى أسوأ وتضيق الخية حول أعناقهم يوما بعد يوم، ويتخلص بعضهم من حياته بالانتحار ويرى بعض آخر أن قتل أطفاله وهم صغار أو وهم أجنة فى البطون أكثر رحمة من بقائهم فى حياة ليس فيها بصيص أمل.وطالما كانت كل الوعود التى يسمعونها من حكامهم كاذبة.. ولا تستهدف إلا تخديرهم .. فمن الطبيعى أن تكون مثل تلك التسميات هى أكثر العبارات ملاءمة لتوصيفهم ، ومن المنطقى أن تنهار الثقة بهؤلاء الحكام وتتسع المسافة .. ليسعى كل فريق لتدبير شئونه بعيدا عن الآخر.. بل وفى مواجهته.

·   وفى مصرنا المحروسة- فى أعقاب انتفاضة 18 و 19 يناير 1977- صدّق العامة أن عام 1980 سيكون عام الرخاء حسبما صرح بذلك الرئيس المؤمن أنور السادات ذات يوم وإذا بطوابير الخبز تبدأ فى الظهور فى ذلك العام على وجه التحديد.

 

·   كما صدق العامة أن اتفاقية الصلح مع إسرائيل ستوفر كل ما كان يتم إنفاقه على الحروب  والاستعداد لها وبذلك يعم الخير على المحرومين..  إلا أنهم اكتشفوا أن كيلو اللحم الذى كان سعره آنذاك أقل من جنيه قد تجاوز ثمنه الآن ثلاثين جنيها.. وصدمتهم الحقيقة المرة.

 

 ·   وصدق العامة أن الانفتاح الاقتصادى سيجذب رؤوس الأموال التى تنعش الاقتصاد وتبعث فيه الحياة وتنقذه من ركود قادم على الأبواب .. فإذا به يسحب رؤوس الأموال خارج الوطن بعد أن خرب صناعات رئيسية وقضى على محاصيل زراعية استراتيجية ووضع يده على صناعات هامة كالأسمنت والأسمدة والأدوية، وجلب كل ما يلوث البيئة ويقتل الحياة ويفقد الأمل مثل شركة أجريوم.

 

·   صدق العامة أن شركات القطاع العام ومصانعه- التى شُيدت من ضرائب الموظفين والعمال ومن أقساط بيع أراضى الإصلاح الزراعى للفلاحين ومن إيجاراتها- وتم بيعها للقطاع الخاص " برخص التراب" سيشتعل التنافس بينها مما يؤدى لانخفاض أسعار السلع والخدمات وارتفاع جودتها.. وتيقنوا أنها أكذوبة.

 

·   وصدق العامة أن حرية إقامة المشروعات الاقتصادية سيصير فى متناول اليد وسيشمل نعيمها جميع فئات الشعب .. فوجدوا أن القادر منها على الاستمرار فى النشاط والإنتاج يقتصر على المشروعات الكبرى التى تملكها القطط السمان.

 

·   وصدقوا أن هذه الحرية الاقتصادية ستعود على المستهلكين بالرخاء والازدهار والاستقرار .. فإذا بلهيب الأسعار يحرق كل الفقراء على السواء ويلسع الكثيرين ممن كانوا متيسرين أو بعيدين عن المعاناة اليومية فى تدبير لقمة العيش.

 

·   صدق العامة أن قانون التأمين الصحى الجديد سيعفيهم من مماحكات موظفى التأمين وممرضيه ومن لامبالاة أطبائه ويجنبهم مغبة الوقوف فى طوابير الصيدليات.. واكتشفوا أن غرضه الرئيسى هو بيع مئات المستشفيات – التى تم تشييدها- وآلاف الأجهزة الطبية العملاقة وعشرات الآلاف من الأسرّة – التى تم شراؤها – من اشتراكات المواطنين والمرضى، وأن العلاج صار من حق القادرين فقط وما على الفقراء إلا احتمال المرض وانتظار الموت.

 

·   صدق العامة أن تغيير أنظمة التعليم سيعود على أبنائهم بالنفع.. فإذا بالمدارس تخرّج أميين حقيقيين بفضل ظاهرة الغش الجماعى وتظهَر مدرسة أخرى موازية للتعليم الحكومى إسمها الدروس الخصوصية يتعلم فيها من يملك أجرها ويبتعد عنها من لا يملك، ولأن التعليم صار سلعة تباع وتشترى تسربت أسئلة الامتحانات لأبناء الكبار والمتنفذين وعلية القوم.

 

·   صدق العامة وجود أحزاب سياسية تتداول السلطة.. وتعددية حزبية حقيقية تتنافس فيها الأحزاب على خدمة المواطنين قبل أن تتطاحن على مقاعد الحكم والنفوذ ومفاتيح الثروة فإذا بهم يشاهدون مسرحا يقف على خشبته فتوة يفرض جبروته على الجميع وتسبق يده نظرته لما يطمع فى امتلاكه أو اقتنائه..  وحوله مجموعة من الأقزام تتنافس على خدمته فى السر أكثر من تظاهرها بمعارضته فى العلن، فتوة يستعين بأقزامه لاستظهار " ديمقراطيته " أمام أى وافد من بلاد الفرنجة .. بينما الوافد لا يصدقه.

·   صدق العامة أن قانون الطوارئ لن يُستخدم إلا فى مواجهة ما أسمته الدولة بالإرهاب والبلطجة فإذا بهم يجدون الدولة هى التى تمارس الإرهاب ضد المواطنين فى أقسام الشرطة وفى ردهات المحاكم وعلى سلم النقابات ، وتستخدم البلطجة ليس فى تزوير الانتخابات العامة والمحلية فحسب بل وضد عمال المصانع  المحتجين على تدنى أجورهم  وتردى أحوالهم المعيشية .. وضد الفلاحين الذين يزرعون أرضا وزعتها الدولة عليهم من نصف قرن ودفعوا ثمنها أو يستأجرونها وينتظمون فى الوفاء بإيجارها .. لا لسبب سوى أن الأرض أصبحت مطمعا لا يمكن مقاومة إغرائه  وتمهيدا لتحويل مصر إلى مزارع  وضياع  واسعة  تفى بمطالب الشركات الزراعية متعددة الجنسيات ولا مكان فيها لهؤلاء المعدمين. 

 

·        وصدّق الفلاحون:

 

* أن إلغاء الدورة الزراعية سيحررهم من الالتزام بزراعة المحاصيل التقليدية محدودة الربح كالقطن والقصب والحبوب ويمكنهم من زراعة المحاصيل المربحة .. وخاب توقعهم.

* وأن تداول مستلزمات الزراعة فى الأسواق من بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف سيعفيهم من تلكؤ الجمعيات الزراعية ومضايقاتها ويخفض أثمانها ويمكنهم من التزود بها بالكميات والنوعيات المناسبة وفى التوقيت الذى يريدونه واستيقظوا على أن نار الجمعيات أخف وطأة  من جنة التجار والأسواق.. وأن مقتلهم  والقضاء على علاقتهم بالزراعة قد بدأ من هذه الإجراءات على وجه التحديد.

* وفوجئوا بأن اشتراكاتهم السنوية التى دفعوها للجمعيات الزراعية لتشترى لهم بها كل ما يلزم احتياجات الزراعة قد تم السطو عليها لصالح بنوك القرى التى تأسست فى عصر السادات، وأن هذه البنوك قد ألقت فى السجون كل من عجز عن تسديد ما استدانه من قروض أو حجزت على محاصيله وفاء لها .. وخرج فى نهاية العام الزراعى خالى الوفاض.

* وبعد أن كانوا يحصلون على الأعلاف الرخيصة من الجمعيات الزراعية.. أصبحوا لا يجدون التبن ليطعموا مواشيهم.. فبدأوا فى بيعها بنصف أثمانها فى أسواق اللحوم.

* واختفت الأسمدة وتضاعف ثمنها .. وتاجر فيها لاعبوا الكرة، وشاعت أخبار استيراد المبيدات الزراعية المحظورة التى شكلت خطرا داهما على صحة الفلاح والمستهلك والحيوان وعلى خصوبة التربة.

* وبعد أن كانوا يحتفظون بكل أنواع التقاوى ليزرعوا منها ما يشاؤون أصبحوا أسرى لشركات البذورالمستوردة تبيع لهم بالكميات التى تراها وبالأسعار التى تفرضها.. واختفت أغلب -إن لم تكن كل- البذور المحلية التى كانت فى متناول أيديهم.

بدأ العامة فى اكتشاف كل هذه التفاصيل وأدركوا أنهم يعيشون كابوسا مفزعا لا يستيقظون منه.

ولأن معرفة التفاصيل لا تقود الناس مباشرة للحل .. ولا ترشدهم بشكل تلقائي لطريق الخلاص فضلا عن تأثيرها المباشر عليهم فى إفقادهم الثقة فيمن يحكمونهم.. وربما فى المستقبل..

 كان لابد من البحث عن الحلقة المفقودة بين اكتشاف التفاصيل وبين الإمساك بالحقيقة حتى يستعيد الناس الثقة فى المستقبل على الأقل فيما يتعلق بأجيالهم القادمة.

 وكان الإمساك بالحقيقة لا يحتاج أكثر من وضع كل هذه التفاصيل فى سياق عام يضع أيديهم على مفاتيح الحل وأرجلهم على طريق الخلاص.

 

وهذا السياق العام سينطق أمامهم بمعان عظيمة ليست بعيدة عن عيونهم بل هى غائبة عن الأذهان بالرغم من كونها جميعا فى متناول اليد وهى:

·   أن النظام الحاكم ليست وظيفته الفعلية إدارة المجتمع ورعاية المواطنين والنهوض بهم بقدر ماهى نهب ثرواته وإهدار طاقاته وتشويه سمعته والإساءة لتاريخه والإرتباط بأعدائه وإخضاع سكانه وتضليلهم وإفقادهم روح المقاومة والثقة بالنفس والمستقبل.

 

·        وطالما تم إدراك ذلك المعنى والتيقن منه بات البدء فى المقاومة مسألة وقت ويتطلب الإجراءات التالية:

 

1    التمايز عن النظام الحاكم وتحديد التخوم معه وليس التداخل معه.

 

2  التنظيم فى أشكال مستقلة عنه بدلا من الانخراط معه فى أحزابه وجمعياته ومؤسساته التى يديرها ويسيطر عليها درءا للتبعثر والبحث عن الحلول الفردية.

 

3-    المواجهة المدروسة بدلا من المساومة والحلول الوسط.وإذا كانت القوانين فى إجازة مفتوحة بينما يتم حكم الشعب بخليط من الأهواء اللحظية الطارئة والمصالح الدائمة وتغييبه فى اتخاذ كل القرارات المصيرية واعتباره محجورا عليه..

* وفى هذا الشأن باع النظام الحاكم القطاع العام الصناعى لمن يملكون الثروة ويقفون خلف الستار.

* واستولى على أموال التأمينات الاجتماعية والمعاشات باعتبارها مالا سائبا ولم يحفظها لأصحابها فى أوعية ادخارية مأمونة كما متعارف عليه فى كل بلاد الأرض .

* ويبدد منشآت التأمين الصحى وعياداته وأجهزته الطبية وملياراته السائلة.

* وسطا على أموال الفلاحين فى الجمعيات الزراعية وحرمهم من إدارتها وتوجيهها للأغراض الزراعية الجوهرية.

* وأهدر جانبا كبيرا مما حصله من كل ما سبق فى مشروعات وهمية مثل توشكى.

* وسمح وتواطأ على الاستيلاء على مساحات هائلة من الأراضى العامة لعصابات السطو المنظمة على الأراضى التى يقف خلفها كثير من المسئولين السابقين والمتنفذين وغيرهم الذين سيكشف المستقبل القريب عن مفاجآت مذهلة فيما يتعلق بهم.  

* ودعم وساند بل وقاد انتزاع أراضى الفلاحين بكل السبل لصالح ورثة الإقطاعييين، والعصابات المنظمة، وكبارالزراع ، والمستثمرين فى  مجال التصنيع الزراعى، علاوة على الشركات العالمية الكبرى العاملة فى مجال إنتاج وتسويق مستلزمات الإنتاج الزراعى التى تقف وراء كل التغيرات فى الزراعة المصرية والتى هى أول المستفيدين منها.

لقد اقترف النظام الحاكم كل ذلك بنظام الفوضى التى ليست خلاقة والتى بلا أخلاق.. ولم يقْصرذلك على قطاع اقتصادى دون آخر ووضع الجميع أمام طريق واحد هو ضرورة إجباره  على التراجع بأى شكل. 

الثلاثاء 8 يوليو 2008