تعقيب على تأملات فى قضايا الزراعة المصرية

 

 
أثارت تأملات محدثنا د. حسن أبو بكر عشرات القضايا وثيقة الصلة بمعضلة الزراعة المصرية ، ومعها أثارت شهيتنا فى الاشتباك معها. وحيث أنه من الصعب عموما تناول معضلة كهذه بعناصرها  فى وريقات معدودة، إلا أن محدثنا رصد بحس علمى سياسى واضح عددا من التحديات والفرص المتاحة أمام الزراعة المصرية كمقدمة لصورة رسمها لملامح الزراعة فى إيجاز.
 
* وحيث أنه عنون حديثه بعبارة تأملات، وبالرغم من أنه لم يطرح أسئلة صريحة تساهم الإجابة عنها فى وضع حلول  أو مداخل لحلول.. لمعضلة الزراعة إلا أن الطريقة التى عرض بها الموضوع  تدفعنا دفعا لطرح بعض هذه الأسئلة، كما تتيح لنا أن ننتقى من ملامح الصورة التى رسمها عددا من القضايا نراها حاسمة فى بدء الحواروهو ما يحسب لها.
 
* أول هذه الأسئلة هو: من أين نبدأ وكيف؟، وثانيها: هل مشاكل الزراعة المصرية ومعضلاتها تنبع من داخلها أم أن جذر هذه المشاكل قادم من خارجها؟ أم الإثنين معا؟
 
* ولأن محدثنا فجر عديدا من القضايا الحية ، فقد بات من الضروري أن نجيب عن سؤال ثالث يقول: فيما أثاره محدثنا من موضوعات..  ما هي القضايا التي يمكن أن نعتبرها بمثابة الحلقة الرئيسية في معضلة الزراعة المصرية والتي تحيل بقية ما تضمنه الحديث إلى حلقات أصغر ترتبط بهذه الحلقة الرئيسية؟ والتى إذا ما تناولناها وشرعنا  في مواجهتها وتمكنا من كسرها.. يصبح التعامل مع بقية الحلقات المرتبطة بها أكثر سهولة ويسرا؟
 
* وإجابتنا عن السؤال الأول بم نبدأ؟  تلزمنا باستعراض الملامح العشرة للصورة التي قدمها محدثنا، وأتصور أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مجموعات أو حزم من القضايا وهي:
 
1- رسم السياسات وإصدار التشريعات والقوانين – الريف والفلاحون- الزراعة في برامج الأحزاب السياسية.
 
2- التعليم والبحث العلمي والتدريب في المجال الزراعي – الإرشاد الزراعي- التكنولوجيا الزراعية.
 
3- الأرض والتربة الزراعية- الموارد المائية- الطاقة- الإنتاج النباتي والحيواني- الفجوة الغذائية.
 
كما نري أن الحزمة الأولى من القضايا هي الحلقة الرئيسية لمعضلة الزراعة المصرية بينما الأخريتان تمثلان رغم أهميتهما الشديدة حلقات تابعة لها.
والحلقة الرئيسية في تصورنا هي لب القضية.. ومدخل للإجابة عن سؤال بم نبدأ بشكل موجز، فهي تتناول:
 
– المسار السياسي (النظري والعملي والقانوني) لمعضلات الزراعة من ناحية..
–  وتجليات ذلك المسار على وجه الريف وعلى الفلاحين كمنتجين وصلتهم المتأرجحة بالأرض الزراعية، والطريقة التي يمارسون بها الانتاج ويحاولون بها الدفاع  عن مصالحهم، والأشكال التي تجمعهم في مقاومة القوى المسيطرة على الريف من ناحية ثانية.
 
–  ودور الأحزاب السياسية في فهمها لقضيتهم وموقفها العملي منهم من ناحية ثالثة.
ويهمنا في هذه النقطة أن نشير إلى أنه في داخل هذه الحلقة الرئيسية يشكل الوعي بأبعاد السياسات العامة والزراعية وكذا عملية تنظيم الفلاحين نقطة البدء العملية..
 
* فالسياسات هى التى ألغت عدد من القوانين الحيوية للزراعة، وعملت على استعادة أراضي الحراسة وجزء لا بأس به من أراضي الإصلاح الزراعي من زراعها الفلاحين، وألغت حق الفلاح في استئجار الأرض مددا مناسبة بإيجار يتناسب مع إنتاجها، وأفضت لفوضى التركيب المحصولي، وتدهور زراعة القطن وتصنيعه، وقطعت الطريق على التعاون الزراعي، وألقت بكل وسائل الإنتاج الزراعي من بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف وآلات في أيدي التجار والوسطاء ومندوبي الشركات الكبرى متعددة الجنسية العاملة في هذا المجال،وسطت على أموال الفلاحين التى هى رؤوس لأموال الجمعيات الزراعية لصالح بنوك القرى ورفعت فائدة القروض الزراعية من 4 %  إلى 18 % فى السنة وبذلك أنهت على الائتمان الزراعى ، وحاصرت البحث العلمي والتعليم الزراعي، وقضت على صناعة الدواجن وتعامت عن غزو الأمراض للثروة الحيوانية، فضلا عما أصاب الأرض من تآكل لصالح عمليات البناء والمضاربة، وأفسدت التربة بفيضان المبيدات ذات التأثير الضار والمسبب لأمراض الكبد والكلى والسرطان.
 
* والسياسات هى التى تجرد الفلاحين من أهم وسائل إنتاجهم- الأرض- معيدة للأذهان المشاهد الدرامية لعمليات التراكم الأولى فى بدايات النظام الرأسمالى فى أوربا ، وتدفع كثيرا من المستأجرين للكف عن مهنة الزراعة وعديدا من الملاك الصغار للتخلص من أراضيهم لضعف جدواها الاقتصادية.
 
* والسياسات.. أفقرت الفلاحين وقيدتهم  وأضعفت مقاومتهم إلا في حالات استثنائية وهبات عفوية لا تلبث أن تخمد، وأبقت على الفجوة بين الريف والحضر شديدة الإتساع.. إلخ
 
* والسياسات هي التي قننت النشاط السياسي المعارض وفتحت له قناة واحدة هي أن يكون ديكوراً  لتعددية مزيفة، لم تخدم سوى النظام الحاكم الذي ابتدعها.
 
* باختصار.. الوعى بأبعاد تلك السياسات والقوانين والتشريعات يمثل المقدمة أو المدخل لأولى خطوات المقاومة.. والوعى هنا لا يعنى مجرد الفهم العام المجرد بل يعنى الفهم الملموس والعيانى الذى يضع أيدينا على تجليات العدوان على الأرض والزراعة والفلاحين فى آن واحد ويشير إلى الوجهة الصحيحة ، ويتممه من الناحية الأخرى اكتساب الفلاحين له بكل الطرق والأساليب التى تجذبهم للإنتظام فى تشكيلات نقابية ثم سياسية تمثل حائط الصد القوى لسياسات النظام الحاكم بكل فئاته وشرائحه وتحالفاته فى الداخل والخارج.
 
* لن يُقبل الفلاحون على الانخراط في أية أشكال تنظيمية دون هذا الوعي.. فالوعي جوهر التنظيم ومضمونه.. وكل ما تم بناؤه خلال الحقب المنصرمة من عمر الفلاحين كان مفتقدا  للوعي الملموس والعياني، ولهذا السبب انهارت كل تلك الأشكال أو لم تستمر.. وبقى الفلاحون مجردين من أهم أسلحتهم.
 
* وإذا كانت الحلقة الرئيسية لمعضلات الزراعة هى الحزمة الأولى من القضايا التي حددها محدثنا في تأملاته لملامح الصورة في الريف، وإذا كان الوعي والتنظيم هما لب هذه الحلقة، فإن التجربة والممارسة العملية هي الطريق لبناء حائط الصد الفلاحي.. أولا لوقف هجوم تلك السياسات وثانيا للجْمها وإبطال مفعولها.
 
* الممارسة العملية هي التي توحد مفهومنا عن الوعي والتنظيم والسياسات.. وهو ما يفتقده عن حق المهمومون بقضايا الزراعة والفلاحين، كما أن الممارسة هي التي تثقف الفلاح وتدربه على المقاومة وتحفزه للاستمرار وتدفعه للتفكير فيما هو أبعد من أنفه أو تحت قدميه.. وتحول جموع الفلاحين لجماعة طبقية متماسكة.
 
* والنظام الحاكم يدرك ذلك ويسعى لقطع الطريق عليه.. ويخشى من تراكم مثل هذا النشاط في الريف واتساعه.. وعلى العكس من ذلك يرحب بالنضالات الاحتفالية والخطابية التي يدمنها الكثيرون منا.
\
كما أنه يسعى لشق صفوف الفلاحين بابتداع  تعريف جديد للفلاح بأنه مالك أكثر من ثلاثة أفدنة  بينما يعمل بتؤدة وحرص بالغين لدفع ملاك ثلاثة أفدنة فأقل إلي نقابة عمال الزراعة التي يسيطر عليها.. ويحكم قبضته باعتبارهم ليسوا فلاحين.
 
ومما سبق يمكن القطع بأن معضلات الزراعة المصرية جذرها قادم من خارجها وأسهم في استنبات جذور أخرى ثانوية داخلها.. تكاد لكثرتها وكثافتها أن توحي لنا بأن معضلة الزراعة المصرية نابعة من داخلها، لكن المدقق في الأمر سيكتشف أن العكس هو الصحيح.
 
ولمزيد من التأكيد نوضح أن الدورة الزراعية هي نظام مهني بحت اكتشفه الفلاحون بالتجربة ويستهدف الحفاظ على خصوبة التربة بمنع تكرار زراعة المحصول الواحد في الأرض سنتين متتاليتين.. لكن هذا النظام المهني قد تم تطبيقه في الخمسينات والستينات بعد إصداره في قانون.. وكان هدفه البعيد إلزام الفلاح بزراعة محاصيل معينة تفي بحاجة المواطنين من الحبوب وبالتزامات الدولة من الصادرات.. وحينما أرادت الدولة في السبعينات- استنادا إلى تقديرات أجنبية- القضاء على زراعة القطن وخلق فوضى التركيب المحصولي ألغت قانون الدورة الزراعية.
 
السادة الحضور: التجربة العملية والممارسة هى التي أفهمتنا دور الشركات العولمية في احتكار تجارة مستلزمات الإنتاج الزراعي، ودور النظام الحاكم في فتح أبواب الريف أمامها.
 
وأوضحت لنا ضرورة التضامن بين جميع الفلاحين فى مصر.. بل وحتمية التضامن بين فلاحي الشمال والجنوب ضد الشركات العولمية الكبرى.. ولا يمكن لهذا الشعار أن يصبح حقيقة دون تنظيم فلاحي الجنوب.
 
السادة الحضور إذا ما أمسكنا بالحلقة الرئيسية في مجال الزراعة المصرية وتحلينا بالدأب والجسارة والتعاون الجاد سنتمكن من بناء حائط الصد في الريف الذي سيترافق مع حوائط أخرى في بقية طبقات المجتمع.. لوقف سياسات الليبرالية الجديدة وامتداداتها فى بلادنا.
 
9/11/2008                                                 بشير صقر