إجراءات جديدة ضد الفلاحين (2) : بعد 40 عاما من إنشاء شبكات الصرف .. وزارة الرى تحصل التكلفة بأثر رجعى

فى العلم يمثل المستقيم أقصر المسافات بين نقطتين ، وفى السياسة يكون الإستبداد أقصر الطرق وأسرعها للفساد .

 فالإستبداد والفساد قرينان متلازمان ..أولهما أداة الثانى ومطيته .. يلعب دوره  فى إصابة الشعب بالخرس .. وحرمانه من الحوار والمبادرة والمشاركة وسد كل المنافذ أمام التغيير ويهيئ بذلك جملة الظروف لنمو الفساد وانتشاره بسرعة شديدة.

وفى أنظمة الحكم الاستبدادية يتباطأ انتشار الفساد عندما تتبنى مشروعا قوميا يجمع غالبية الشعب حولها ..وبانتهاء ذلك المشروع كما حدث فى مصر فى السبعينات يرتفع معدل انتشار الفساد وتتضاعف فعاليته.وبين الحكام المستبدين نصادف بعض الأذكياء .. يحافظون على استمرار الاستبداد من حيث الموضوع أما فى الشكل فإنهم يعملون على ستر قبحه كلما أمكن، وهذا الأسلوب يبطئ نوعا معدل انتشار الفساد لكن لا يمنعه..

وعلى العكس من ذلك فأغلبية المستبدين لا يملكون الحصافة اللازمة ويطلقون العنان لأعوانهم ولجماعات المصالح فى نشر الفساد وإفقار الشعب ونهبه وإذلاله والإستهانة بعقله وكرامته باستخدام أساليب شديدة الفظاظة والفجاجة ضاربين عرض الحائط بالقانون والدستور غير عابئين بتراكم الغضب فى صفوف الشعب ولا بعزلة نظامهم الحاكم حتى خارج حدوده مما يعجل بالنهاية التى عادة ما تكون مأساوية.

ففي واحدة من قرى المنوفية ظهرت أعراض التقزم علي محاصيل الذرة الشامية المزروعة منذ ثلاثة أشهر وبدأت الدخول في مرحلة النضج، وبدلا من بلوغ أعوادها مترين ونصف كما هو المعتاد لم تتجاوز أطوال معظمها مترا وربع، علاوة علي تضاؤل أحجام كيزانها وتحول الكثير منها إلي "شراشيب" هزيلة لا تصلح حتي لعلف الحيوان.. وذلك بخلاف تقلص أعداد الحبوب وأحجامها.لقد تبخر محصول الذرة هذا العام وذهب مع الريح.

•لم يبحث الفلاحون كثيرا عن السبب.. فقد رافق ذلك ظهور أعراض مرضية على التربة متمثلة في أتربة ناعمة بنية اللون (سبخ) على خطوط الزراعة، وسريعا ما أدركوا أن المحصول يعاني من عملية اختناق سببها ارتفاع منسوب الماء الأرضي.

•وتوصل الفلاحون إلي أن شبكة الصرف المغطى التي أنشئت في الستينات قد أصابها العطب وأن الصيانة التي أجريت لبعض أجزائها منذ ما يزيد قليلا على عشر سنوات في عدد من القرى المجاورة لمدينة الشهداء بالمنوفية قد تم "سلقها" وبدلا من استبدال كل مواسير الخطوط التالفة ثم الإكتفاء بالخطوط الرئيسية دون الفرعية وبمواصفات فنية رديئة حيث اختفت بطانة الزلط وغطاء الرمل اللذين يحيطان خطوط المواسير على كل امتداداتها.أي أن الإنهيار الذي حدث لشبكات الصرف المغطى كان النتيجة الطبيعية لتكليف غير المختصين أو ضعيفي الكفاءة بترميم الشبكات وانعدام الرقابة عليها ممن تسلموها من المقاولين وتابعوا صيانتها.

•الأهم من ذلك هو جريمة الإحتيال التي تتم في وضح النهار من جانب وزارة الري والمالية لكل الفلاحين الذين تحولت أراضيهم إلي مستنقعات على يد مجموعة من مقاولي الصرف المغطى وكبار مسئولي الري في المحافظة.وتتمثل عملية الإحتيال في مجموعة من الإجراءات التنفيذية هي:

•إخطار الفلاحين بضرورة تسديد تكلفة إنشاء شبكة الصرف المغطى في أراضيهم التي يزرعونها منذ الستينات وتبلغ 1200 جنيها للفدان أي أن قرية مثل كمشيش يبلغ زمامها 1800 فدان ستكون ملزمة بدفع 2160000 (مليونين ومائة وستين الف جنيه).•توزيع كشوف بأسماء الفلاحين وبالمبالغ المطلوب تحصيلها يتسم أغلبها بالتقديرالجزافى للمساحة ومن ثم للتكلفة.

•وهذه الكشوف تحمل عبارة (عملية تجديد شبكة الصرف الحقلي بمنطقة قصر نصر الدين) وبتاريخ 2 نوفمبر 1996 كما كتب عليها أن تاريخ عرضها علي الفلاحين في كمشيش هو المدة من 20 فبراير 2005 إلى 14 مارس 2005 بما يعني أن هناك عملية تجديد للشبكة تمت قبل نوفمبر 1996، ولما كانت الشبكة التي تم إنشاؤها في الستينات.. ظلت صالحة للعمل لما يزيد عن ثلاثين عاما.. بينما أصابها العطب بعد تجديدها بعشر سنوات وبات استبدالها أمرا لا مفر منه.

•كذلك تدعي الكشوف المذكورة أنه قد تم عرضها على الفلاحين لمدة 25 يوما في عام 2005.. الأمر الذي نفته اللجنة المكلفة بحيث الموضوع من الإدارة الزراعية المختصة في الأسبوع الماضي.•تم تكليف مأموريات الضرائب العقارية كل في نطاقها بالقيام بتحصيل المبالغ المذكور
ة بالكشوف من الفلاحين.. علما بأن الكشوف حددت تاريخا لمدة الإعتراض على تقدير التكلفة من 15 مارس 2005 إلى 14 إبريل 2005 وهذا يعنى أن الفلاحين قد قبلوا بما قررته الكشوف من تكلفة ولم يعترضوا عليها، وحيث ثبت من التحقيقات عدم إخطار الفلاحين بها فإن من المنطقي أنهم لم يعترضوا عليها بالتالي.
لكن المثير هو أن المطالبةبتسديد التكلفة تتم بعد انتهاء تجديد الشبكة بأحد عشر عاما.•ولم كانت هذه المأموريات هي المكلفة بتحصيل ضريبة الأطيان من كل مالك حتي لقيراط واحد من الأرض- بعد أن كان الإعفاء الضريبي يشمل ملاك ثلاثة أفدنة فأقل – فإن محاولة تحصيل تكلفة إنشاء أو تجديد شبكات الصرف المغطي بأثر رجعي يعني إضافة هذه التكلفة إلى ضريبة الأطيان.ولما كانت لمأموريات الضرائب العقارية صلاحية الضبطية القضائية فستقوم بالحجز على محاصيل وأراضي من لا يسدد هذه التكلفة من الفلاحين وإلا تعرضوا للحبس.

•ولما كانت الضرائب والرسوم لا تقررها الدولة علي المواطنين ولا تحصلها منهم إلا بقانون فإن سلطة الضبطية القضائية المخولة لموظفي الضرائب العقارية في تحصيل ضريبة الأطيان تعتبر شيئا منطقيا.. لكن الأمر يختلف بالقطع في حالة قيام هؤلاء الموظفين بتحصيل تكلفة إنشاء أو تجديد شبكات الصرف المغطى في الأراضي الزراعية من الفلاحين لأن خلط ضريبة الأطيان بهذه التكلفة في عملية التحصيل يجعل صلاحية الضبطية القضائية منسحبة علي كليهما دون تفرقة وهو ما يتعارض مع الدستور بل ويعتبر تعسفا وإساءة في استخدام الحق (حق الضبطية القضائية) هذا من ناحية.

•ومن ناحية أخرى فإن تحصيل تكلفة مشروعات أقامتها الدولة كمرافق عامة مضي عليها أكثر من خمسين عاما أو تحصيل تكلفة إصلاحها أو تجديدها أو ترميمها التي يدعي المسئولون في وزارة الري أنها تمت منذ أحد عشر عاما يعتبر مخالفا للقانون لأن الدولة لم تتعاقد مع الفلاحين على تحمل تكلفة هذه المشروعات، ولم تشترط عليهم دفع تكاليف ترميمها وإصلاحها علاوة علي أن أية مستحقات مماثلة للدولة تسقط بالتقادم في حدود خمس سنوات أي لا يحق لها تحصيلها بأثر رجعي بعد خمس سنوات من تقريرها.•كما أن هذا الأمر مجاف للمنطق لأن مشروعات الصرف المغطي هي مرفق عام كالكهرباء ومياة الشرب والغاز الطبيعي التي تقوم الدولة بتحمل تكلفة إقامتها ومد خطوطها حتى المنازل إستنادا لما تحصله الدولة من ضرائب.. أما إيصالها داخل المنازل فيتحمل المواطن تكلفتها ولو أرادت الدولة وقت إنشاء الشبكة أن تلزم الفلاحين بدفع تكلفتها لفعلت.. ورغم هذا فإن مرفق الصرف المغطى يختلف لأن هناك من المواطنين من لا يستخدم الغاز الطبيعي والكهرباء.. لكن لا يمكن للأرض أن تنتج دون صرف.

أما اذا كانت وزارة الري تسعى لتحصيل 1200 جنيه (ألفي ومائتي جنيه) عن كل فدان دون توضيح الأسباب، وبافتراض أن الوزارة تحصلها مقدما لتقوم بترميم شبكات الصرف المنهارة والتي أشرف مهندسو الوزارة على تنفيذها وقاموا باستلامها من المقاولين وهم الذين تكفلوا بصيانتها ومراقبتها وعلاج مشاكلها فكيف تأتيها الجسارة لتحصيل تكلفة مشروعات إصلاح أو ترميم أو حتي تجديد شبكات صرف هى في علم الغيب بل ولم تتخذ خطوة واحدة في سبيل تنفيذها ولم تخطر الفلاحين حتي بنيتها في الشروع فيها.

 وكيف تحصل تكلفة مشروعات وهمية مقدما؟! وكيف تدفع موظفي الضرائب العقارية لتحصيل تكلفة مشروعات لم تبدأ بعد أو مشروعات نفذت بطريقة رديئة منذ أحد عشر عاما وبأثر رجعي.. وجنبا إلى جنب مع تحصيل ضريبة الأطيان وكيف ستتعامل مع الفلاحين المعترضين على تحصيل تكلفة مشروعات وهمية أو سبق تنفيذها وانهارت؟!

•إن مطالبة موظفي إدارة ري الشهداء لفلاحي كمشيش بشراء مواسير صرف لتركيبها في المساحات المضارة من مياة الصرف تصرف غير مفهوم ويلقي ظلالا من الشك علي جدية وزارة الري في تنفيذ أية عمليات تجديد أو ترميم للشبكات المنهارة وعلى جديتها في تقدير التكلفة وعلى نواياها في تكليف وزارة المالية (الضرائب العقارية) بتحصيلها، ولا يعني مثل هذا التصرف سوى محاولة للتغطية على أخطاء الإدارة المذكوة فى استلام شبكات لم تبلغ (ربع) عمرها الإفتراضي، والإدارة المذكورة لا تنفرد قطعا بمثل هذا الخطأ.. فالقرى التي انهارت بها شبكات الصرف لا تحصى ولا تعد. •إن إدارة الري بالشهداء تدرك مسبقا أن فلاحي هذه القرية لن يقوموا بدفع تكلفة إصلاح الشبكة المنهارة لموظفي الضرائب العقارية وسيطعنون في إجراءات التحصيل بعدم القانونية ومجافاة المنطق ومخالفة الدستور، ولا نعتقد أن القرى الأخرى التى عانت من نفس المشكلة ستقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث.                                                      بشيرصقر 

* نشر المقال فى جريدة البديل القاهرية .. الجمعة 24 أغسطس 2007