فى مصرنا .. الأهم هو صوت الحشود..وليس فعلها! هل يُحيى المجلس العسكرى السمات المشتركة بين كينز وعبد الناصر؟!
مثلما توهّم الكثيرون فى عصره أن العالم الاقتصادى كينز قد ثار وانقلب على قواعد الرأسمالية التقليدية ، وأن جمال عبد الناصر قد أسس نظاما اشتراكيا من بداية الستينات فى القرن الماضى، توهم أمثالهم – ومعظمنا منهم – أن النظام الذى يحكم مصر منذ بداية السبعينات قد انهار وأن الشباب المصرى المنتفض فى 25 يناير 2011 الذى أشعل الشرارة لثورة سياسية هائلة ستطلق الديموقراطية وتستأصل الفساد والاستبداد وتفجر طاقات الشعب.
– لم يفطن معاصرو كينز آنذاك أنه لم يغادر أرض الرأسمالية وأنها منذ تفجرت أزمتها الأولى- فى بداية الثلاثينات- تحتاج إلى إعادة صياغة وإلى عمليات تحديث وترقيع تشذب من نتوءاتها المدببة وتسد بعضا من ثغراتها وتضيف إليها من الرتوش ما قد يطيل عمرها – ويؤجل أو يرحَل أزماتها الدورية – دون أن يمس أسسها.
– ولم يدرك كثير من معاصرى العهد الناصرى وقتها أن تصفية الحياة السياسية ومصادرة الحريات الديموقراطية لا بد وأن تصيب أعمدة البناء الناصري بداء هشاشة العظام مهما كانت مصنوعة من الخرسانة.. ليتهاوى ذلك البناء بمجرد وفاة بانيه، وتؤكد بأن البناء الاشتراكى الحقيقى لا يقتصر على مجرد الإجراءات الاقتصادية بل يتطلب ثقافة وسلوكا اشتراكيين وتصونه وتحميه دروع بشرية على نفس الشاكلة؛ وأن استمراره ليس مرهونا بدوام حياة بانيه بل مشروط باستمرار حماته من أفراد الشعب.
ولم يصدق الكثيرون منا حتى الآن أن نظام ( وليس شخص ) مبارك الذى هو امتداد لنظام السادات لا زال موجودا وتراوده الأحلام فى استعادة كامل سلطانه السابق أن ركائزه قائمة بل وكثير من رموزه ورجالاته ومعظم سياساته، وأن ما حدث فى 25 يناير هو نصف ثورة سياسية لم تقترب من أن تكون ذات طابع اجتماعى، وأنها أتاحت متنفسا محدودا من الحرية وبددت بعضا من الجوالخانق القديم.
باختصار ما تم ويتم فى مصرأقرب إلى الترقيع الكينزى للرأسمالية الذى لا يقتصر على تجميلها بل يستهدف إطالة عمرها ويتحرى توسيع المسافات التى تفصل بين دورات أزمتها.
فقد اختلفت نسبيا المفردات التى يتحدث بها ممثلوا النظام القائم لكن اللغة كما هى؛ وتغيرت أو اختفت بعض الوجوه لكن الروح القديمة مازالت تحيا، وصُفيت مباحث أمن الدولة وحل محلها الأمن الوطنى لكن منطق العسس يربط بين الخلف والسلف ؛ وتفكك الحزب الوطنى فتحفزت جماعات السلفيين والإخوان والبلطجة لتتبوأ مكانه؛ وزال الخوف من أجهزة الشرطة وتولد الهلع من حالة الفوضى التى تحركها جماعات المصالح ، وتجمدت محاكمات أمن الدولة لتفيض علينا المحاكمات العسكرية
واختفت قبضة الشرطة السرية وظهرت قبضة الشرطة العسكرية على المواطنين الشرفاء أشباه المعدمين بينما كان زكريا عزمى والشريف وسرور مازالوا طلقاء.
ورغم هذه الصورة .. ورغم ضيق الوقت المتاح للنشاط وأهمية مضاعفة الجهد ومسابقة الزمن وضرورة تكاتف المتقاربين سياسيا ممن يرون شعبية الثورة ومدنية الدولة وبرلمانية النظام فلا زالت النخب تتعامل فى ممارساتها السياسية باعتبارها فى واحة ديموقراطية أو على الأقل باعتبار الحالة الراهنة ستستمر طويلا ؛ علاوة على أن معظمها يتخذ – موضوعيا – من قرار المجلس العسكرى بوصلة له ويصبح التنافس المحموم والرخيص لضم 5000 مواطن هدفا للحصول على حزب سياسى لتشتعل من جديد مشاعر العصبوية والحلقية المدمرة.
كذلك فما زال الطابع الاحتفالى هو السمة الأبرز لنشاطها السياسى مع إهمال الأسس المعروفة لهذا النشاط المنشود ومنها قراءة ميزانى القوى السياسية والطبقية قراءة صحيحة خصوصا فى ظل الانحيازات والاستقطابات السياسية الواضحة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى مازال الإرث التاريخى القديم فى طريقة تكوين الأحزاب السياسية والنقابات والروابط والاتحادات هو الأبرز؛ ذلك الإرث الذى لا يهتم بالصلات العضوية بالجماهير والارتباط بثناياها وتفاصيلها الدقيقة بديلا عن تحزيمها بالجملة لدفعها بالشاحنات التى تحملهما إلى الاحتفالات السياسية أولجان الاقتراع الانتخابية دون فهم أو إدراك أو وعى بمصالحها وبالوسائل المناسبة للوصول إليها .. تطبيقا للحكمة الرديئة الشهيرة ” الوعى لا يهم لأنه سيتولد فى مسار الكفاح ” وتمر الأيام ولا تتضح معالم هذا المسار أو يتولد ذلك الوعى المزعوم .. ويصبح الشعار الجامع لتلك النخب ” الحشد.. الحشد.. الحشد ” متمتعا بحصانة ” لا صوت يعلو.. ” فليس مهما أن تفضى تلك الحشود إلى تكوين ( إتحاد اشتراكى آخر.. أو اتحاد عمال “مجاورى” أوتدبيج اتحاد فلاحين تجمعى الطبع والطابع ومكرور ) تلك الاتحادات التى لا تتجاوز كونها حاوية لتخزين الجمهور مثلما كانت فى وقت سابق وتحولت بمضى الوقت إلى مرتع للمخبرين ومدارس لتخريج النقابيين الصفر أو ” نقاشين ” يجملون وجه النظام إمعانا فى تضليل الشعب ، ولا ننسى أن بعضا من تلك المؤسسات والاتحادات كان فى بداية تكوينه يسبح باسم الثورة والبعض الآخر كان يرفع راية الإشتراكية لأن الطريقة التى بنيت بها كان معيارها ” الولاء .. الولاء .. الولاء” بدلا من ” الوعى .. الوعى .. الوعى ” وهى التى قادتها لتتحول فى
” مسار الكفاح ” إلى مؤسسات معادية للشعب.
إن الفوضى الراهنة فى تشكيل الأحزاب والنقابات و الروابط والاتحادات – رغم أنها رد فعل لحالة الاستبداد السابقة- تتضمن سلبيات عديدة ستعرضها لمخاطر جمة فى المستقبل القريب إن لم يتم ضبطها من العناصر الواعية التى تدعو لتشكيلها لأنها تشترك مع منطق النظام الحاكم فى عهوده الثلاث السابقة فى الاهتمام بالشكل دون المضمون وبالكم دون الكيف وتتجاهل أن بناءها يجب أن يراعى ويستجيب لأية تغيرات جدية فى المستقبل وما أكثر احتمالاتها؛ علاوة على ما يكتنف منطقها من تنافسية رخيصة وحلقية وعصبوية مقيتة برغم ما نسمعه بين الحين والآخر من دعوات لتحالفات وائتلافات أو جبهات تضم عددا من تلك المؤسسات السياسية والنقابية الجديدة أو تلك.
فالأحزاب السياسية على سبيل المثال تمثل وحدةُ الفكر والإرادة أهمَ أسس بنائها لأنهما معا يحددان الوجهة والطريق والتأثير الفعال لبرامجها وتلعبان دورا حاسما بالتبعية فى حشد الجمهور واستقطابه وتفجير طاقاته وتوظيفها ومالم تتوفران فإن باب الانفراط سيكون مفتوحا على مصراعيه.
أما النقابات والروابط والاتحادات فهى تبنى من أسفل لا من أعلى وهى لا تنشأ مركزية – كما هو الحال الآن وعلى الدوام- بل محلية ؛ ولا تتشكل كتنظيم واحد بل كنويّات صغيرة فى الورش والمصانع والأحياء والقرى والعزب والنجوع؛ وتستهدف مهمة محددة أو مهمات محدودة ؛ وتتسع وتكبر فى الكفاح العملى الحى لا فى الاحتفالات والتجمعات الإعلامية والمظهرية ؛ وبإنجازها لعدد من المهمات التى تضطلع بها تتلاقى دوائرها لتشكل دوائر أكبر وتنظيمات أرقى على نطاق يتسع باستمرار ؛ واستنادا إلى احتدام الكفاح ودرجة تماسك هذه التنظيمات القاعدية المحلية وحجم إنجازاتها وانتصاراتها ومقدرتها على علاج أخطائها وتطويرها والانتقال بها من المعارك الصغرى والنضالات الاقتصادية المحدودة إلى النضالات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية يمكن ساعتها توحيدها فى تنظيم مركزى واحد وهكذا..
والتنبيه لهذه المخاطر ضرورة ماسة لأن البناء يستدعى جهودا مضنية فى العمل المحلى وإلماما بكثير من الخبرات والتفاصيل ويستلزم درجة من الوعى والخبرة والصبر والحنكة؛ وقراءة أسباب فشل ماتم بناؤه منها فى السابق من أحزاب ونقابات واتحادات بشكل موضوعى لا يلقى بالتبعة فقط على استبداد النظام الحاكم وديكتاتوريته؛ مع الإصرار على التخلص من روح التنافس والعصبوية والحلقية الرديئة ؛ وألا يرقص على أنغام بعض القرارات العسكرية .. ويجتهد فى قراءة حقيقية مستمرة لميزان القوى المتغير فى المجتمع مدركا أن كل الاحتمالات فى المستقبل واردة وممكنة سواء ما يتعلق بتغير الوضع السياسى بعد الانتخابات القادمة أو بصدام مع تيار الإسلام السياسى أو أحد أجنحته أو انفراد الجيش بالحكم أو أية صيغة مقيدة للديموقراطية أو حتى توازن نسبى بين هذه القوى فى المجتمع.
لذلك يلزم التصدى للإرث السلبى فى بناء الأحزاب والنقابات والروابط والاتحادات بحزم وعزم لأن بناء مجتمع مختلف عما كان فى السابق يتطلب رؤية أخرى ومنطقا آخر ومعايير مختلفة ويشترط تخوما فاصلة بين ما كان قائما وبين مايجب أن يكون.
لقد كسرت الثورة فى مصر جدار الخوف و فتحت الباب واسعا أمام قوى التغيير وليس من المحتم أن يكون التغيير إلى الأمام لأن ذلك مرهون بالقوى الأكثر جدية والأرفع وعيا والأحكم تنظيما والأعلى خبرة والأوفر إصرارا على الكفاح.
الأربعاء 10 يونيو 2011 بشير صقر
لجنة التضامن مع فلاحى الإصلاح الزراعى- مصر