لماذا لا يقاومون طردهم من الأرض بالقوة اللازمة ؟ الفلاحون.. بين جبروت النظام الحاكم.. وطراوة اليسار. (3) *

ثانيا: اليســار وعلاقتــه بنظـــام الحكم وبالفلاحــين:

   1 اليســـار ………. وعلاقتـــه بنظـــام الحكــــم .

·        لايمكن الحديث عن اليسار في موضوعنا هذا إلا بالتدقيق فى علاقته بالنظام الحاكم من زاوية وبالمحكومين عموما والفلاحين منهم على وجه الخصوص من زاوية أخرى، ذلك لأن صلة اليسار بالفلاحين كانت أقدم من صلة النظام الجديد الذي تأسس في يوليو 52 بهم، علاوة على العلاقة التي كانت قائمة بين فصيل هام من اليسار (الحركة المصرية للتحرر الوطني "حدتو") وتنظيم الضباط الأحرار قبل عام 52.

·        ويمكن القطع بيقين بأن علاقة اليسار وعلى الأخص "حدتو" بتنظيم الضباط الأحرار ثم بسلطة يوليو بعد ثورة 52 قد تعرضت لشد وجذب أساسه محاولة كل منهما اختبار إمكانية الاستفادة من الآخر في تحقيق أهدافه.

·        وفي هذا السياق كانت دبابات الجيش قد قامت في 8 أغسطس 1952 بمحاصرة أحد مصانع مدينة كفر الدوار ردا على اعتصام مطلبي متوقع للعمال.. وفضته بالقوة وقتلت أعدادا من العمال واعتقلت المئات.. وأقامت محكمة ميدانية علي عجل لقائدين من العمال هما خميس والبقرى.. انتهت بحكم بالإعدام نفذته في العاملين في قلب المدينة وأمام جموع العمال والأهالى.

·        كما تشكلت لجنة ثلاثية (من ضابطين وسيد قطب)  تتولي أمور الطبقة العاملة برمتها ملحقة بمجلس قيادة الثورة ظلت لسنوات تتحكم في كل ما يخص العمال من شؤون. وقد انقسم اليسار في تقييمه لتلك الأحداث وهذه اللجنة.. التي كانت مؤشرا هاما علي ميول النظام الجديد تجاه اليسار، وعلى طبيعة العلاقة التي يرى أن تربطه مع جموع العمال.

·        لقد أسهمت أحداث كفر الدوار فى خلق مناخ من الرعب من النظام الجديد فى صفوف العمال وصنعت شروخا فى العلاقة بين التنظيمات اليسارية وبعضها وخلقت جوا من الريبة والشك تجاه تنظيم حدتو الذى كان على صلة قديمة معروفة بضباط يوليو.

·        وكان عام 1953 فاصلا في تلك العلاقة، حيث كانت قيادة الثورة قد أصدرت قانون الإصلاح الزراعي 178/1952 ثم حلت الأحزاب السياسية الشرعية عام 1953.. بما يعني ضمنا عدم رضاها عن أية أحزاب خصوصا الأحزاب السرية الموجودة ويسيطر اليسار على الجزء الأعظم منها، في الوقت الذي أبقت فيه على جماعة الإخوان المسلمين دون حل رغم معارضتها الفعلية لمبدأ وقانون الإصلاح الزراعي والذي كان باكورة الإجراءات الثورية الجديدة.. ورغم علمها – أى الثورة – بإمتلاك الجماعة لجيش سرى مسلح ظهرت تجلياته في عدة اغتيالات وأحداث شهيرة أبرزها حادث السيارة الجيب.

 وفي المقابل أسست الثورة تنظيمها السياسي الأول (هيئة التحرير) والثاني (الإتحاد القومي).. ليكونا سندا جماهيريا لها.·        وخلال السنوات الأولى للحكم الجديد تعرضت التنظيمات اليسارية لملاحقات عدة واعتقالات لكثير من أعضائها.. توجت بالضربة البوليسية الشهيرة في أول عام 1959 بعد أن نما لعلم رجال الثورة إقدام اليساريين على جمع تنظيماتهم في حزب واحد، ولم تفرج السلطة عام 1964 عمن اعتقلتهم من اليساريين إلا بعد أن أذاقتهم العذاب أشكالا وألوانا، وتمكنت من قتل عدد من قياداتهم وتفسيخ الصلة بين أغلبيتهم.·        هذا وقد لعبت عمليات بناء الجيش المصر
ى الحديث، والنتائج السياسية لحرب 56 ودعم حركات التحرر الوطني في الجزائر واليمن قبل اعتقالهم، وكذا تمصير الممتلكات الأجنبية وتأميم الشركات الصناعية وغيرها وتأسيس القطاع العام ومجانية التعليم ووضع حد أدنى للأجور وحد أقصى لساعات العمل وإصدار القانون الثاني للإصلاح الزراعي 127/1961 بعد اعتقالهم.. لعبت دورا شديد الفعالية في خلق مد قومي وشعبي أفضى إلى هز المعتقدات السياسية والفكرية لكثير منهم إلى أن أسفر عن حل الحزب الذي كونوه عشية اعتقالهم.

·        وخرج اليساريون من المعتقلات ليجدوا وضعا مغايرا لما ألفوه قبل دخولهم –بالذات وأن كثيرا من الإجراءات السياسية والإقتصادية التي نفذتها سلطة يوليو كانت ضمن برامجهم التي كانوا يسعون بكل قوة لتحقيقها، وفوجئوا بالنقابات العمالية وقد أصبحت خارج سيطرتهم، وبإجراءات العزل السياسي وقد شملتهم، وبتنظيم سياسي جديد (الإتحاد الإشتراكي) وقد أصبحت عضويته شرطا لممارسة العمل النقابي والسياسي وللإلتحاق بالوظائف الحكومية.

باختصار تمت مصادرة حقوقهم في العمل العام.. وحقوق كثير منهم في التوظف أو العودة لعملهم أو لمعاهدهم التعليمية، ولم يفتح لهم سوي درب واحد هو إعلان الولاء للنظام الحاكم بهدف السماح لهم بممارسة الحياة، وخضعوا بسبب ذلك لمستويات عدة من الإختبارات للتيقن من جدية التوبة وصدق النوايا.·        وما حاق باليساريين في علاقتهم القوية بالطبقة العاملة إنسحب بطبيعة الحال على صلاتهم المحدودة كما وكيفا بالقرى والمواقع الفلاحية التي وصلوا إليها في السابق. ولم تكن بالطبع هذه العوامل هي السبب الوحيد فيما آلت إليه أحوال اليساريين وإن كانت سببا قويا لا يمكن التقليل من آثاره المدمرة.

·        علاوة علي ما لحالة التشرذم والضياع من أثر فى فلّ أية جهود يمكن بذلها لمراجعة الأفكار والتاكتيكات ومراجعة النفس لوقف مسلسل التدهور والإنحدار الذي ألمّ بهم ، ومحاولة التقاط الأنفاس ثم استئناف النشاط.

لقد أسهم هذ1 الحصار – خصوصا في ظل قانون الطوارئ – في ركون الكثير من اليساريين للعزلة والتزام منازلهم، وفي سعي بعضهم للإنضواء تحت لواء الإتحاد الإشتراكي.. واجتهاد عدد من قادتهم لنيل عضوية التنظيم الطليعي السرى أو تبوء بعض المناصب الهامة.

·        ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أسفرعن نهاياته المنطقية التي لا تعني مجرد الإلتحاق بهذه التنظيمات وتلك الوظائف.. بل تجاوزه للإندماج والإلتحاق بركب النظام الحاكم والحمْية في الدعوة للسير فى نفس الطريق والدعاية لجناح إشتراكي في السلطة الحاكمة.

·         فى هذه الأثناء وفى عام 1966 تم اغتيال اثنين من أبرز القيدات الفلاحية فى المنيا وكمشيش ، وكان اغتيال صلاح حسين على وجه التحديد مؤشرا قويا على استمرار نشاط الإقطاع فى الريف وعلى موقف أجنحة فى النظام الحاكم من تجاوز النشاط الفلاحى اليسارى للخطوط الحمراء التى حددها النظام، وكشفت تداعيات الإغتيالين بعد ذلك عن مفاجآت مذهلة منها تضاعف ملكية عشرات من الإقطاعيين من الأراضى الزراعية مقارنة بما كانوا يملكونه عام 1952 وأن بطشهم وسلطانهم فى الريف لم يهتز كثيرا أو تمت استعادته على غير المتوقع والمفترض.

 

·         لقد بدت الصورة متناقضة فالقوى اليمينية المضارة من إجراءات النظام الحاكم ناشطة بينما كثير من اليساريين يلتحقون بركب النظام .

·         ولم يوقف ذلك مؤقتا سوي هزيمة 67 واحتلال إسرائيل لأراضي أربعة دول عربية وعلى رأسها مصر، وبروز كثير من الرؤوس والميول والنداءات الرجعية التي كانت تتخفى وتعمل فى صمت فى الإتجاه المعاكس.

·        وفى نفس الوقت مثلت الهزيمة دافعا قويا لعدد من اليساريين الشبان وبعض القدامى  الذين عارضوا السياسات الناصرية خصوصا المتعلقة بالحريات الديمقراطية مثل تقييد حقوق التنظيم والتعبير والاحتجاج .. لتشكيل حلقات نشطت فى أوساط الطلاب والمثقفين.. داعية لانتزاع تلك الحقوق ومنادية بتسليح الشعب لاستعادة ما تم احتلاله من الأرض.

·        وفى عام 1970 رحل عبد الناصر تاركا وراءه إرثا حافلا بالمتناقضات .. وبين ليلة وضحاها أقصى السادات بحرفية شديدة كل رموز "الجناح الإشتراكى" ، وأصبحت "الإجراءات الاشتراكية" بلا جناح، ولأنها أيضا بلا أرجل .. باتت فى مهب الريح.

·        وعلا صوت الطلبة اليساريين والديمقراطيين احتجاجا على مبررات الضباب التى ساقها السادات للتلكؤ فى تحرير الأرض .. وربما خشية من وقف الاستعدادات له حتى اندلعت حرب أكتوبر 73 وأسفرت عن انتصار مقتضب ونتائج سياسية هزيلة مقارنة بالنتائج العسكرية والمعنوية الهامة التى تحققت .. واتخذها السادات تكئة ومعبرا للإرتداد للخلف والنكوص عن كل السياسات الناصرية.. فأصدر القانون 69 فى عام 1974 برفع الحراسات.

·        وفى طريقه إلى اتفاقية الصلح مع إسرائيل التى أبرمها عام 1979 .. أصدر عددا من قوانين الانفتاح الاقتصادى  وإعادة ترتيب "بيته" من الداخل فوضع عددا من الرؤوس الرجعية – التى كانت تتخفى فيما سبق – فى مواقع التأثير، ووارب الباب لتيار الإسلام السياسى لينشط وينتشر، وقسّم الاتحاد الاشتراكى بعد تطهيره لثلاثة أجزاء أسماها منابر اليمين واليسار والوسط .. وبقرار.. حولها لأحزاب وترأس أحدها بينما ترك القسمين الآخرين ليرأسهما اثنان من رفاقه السابقين فى تنظيم الضباط الأحرار.

·        كان قانون رفع الحراسات هو بوابة استعادة الإقطاعيين السابقين لمساحات كبيرة من الأراضى التى أجّرها الإصلاح الزراعى للفلاحين.. والذى أفضى إلى تداعيات أهم-

   بعد ذلك – فيما يتعلق باسترداد الأراضى التى صادرها قانون الإصلاح الزراعى ،                 والمدخل الذى أعاد ممتلكات أخرى غير الأراضى الزراعية لأصحابها السابقين.

·        ولم يتمكن اليسار من تنظيم أية مقاومة حقيقية أو دعاية فعالة له باستثناء بعض القرى المحدودة التى اتسمت المقاومة فيها بالعشوائية والضعف.

·        أما حزب اليسار فقد كان المصيدة التى جذبت كثيرا من اليساريين – وغالبيتهم من حدتو– الذين وهنت مقاومتهم بفعل اهتزاز قناعاتهم الفكرية والسياسية فى طريقهم القديم ، وجذبت عديدا من الشباب محدود التجربة والفكر .. وأوهمتهم بوجود منبر شرعى للنضال ضد سياسات الارتداد والاستبداد والتفريط فى التراب الوطنى والتبعية لأعداء الوطن بديلا عن الارتباط العملى والحقيقى بالطبقات الفقيرة ، وقد أسهمت مطارق الحصار البوليسى عن نتائج مخيبة لآمالهم تفاقمت بمضى الزمن.. وأفضت فى نهاية المطاف إلى انحسارالعضوية ثم إلى التحاق حزب اليسار الشرعى – من الناحية العملية – بركب النظام والمشاركة ف
ى إبراز تعدديته السياسية المزيفة
.

وأدى تأبيد ذلك الوضع وتداعياته ـ على مدى ثلاثين عاما- إلى إضعاف النشاط اليسارى بشكل عام  واقتصاره على الأنشطة الثقافية داخل مقرات الحزب والمساهمة فى قطع  الطريق على نشوء بدائل حقيقية له، بعدها تحول حزب اليسار إلى وكيل فكرى وسياسى للنظام الحاكم فى مواجهته لتيار الإسلام السياسى وفى مواجهته لكل الدعاوى والممارسات الراديكالية خارج الحزب.

وقد أسهم فى ذلك بشدة وعمّقه استسلام أغلبية الحلقات الشبابية التى تأسست فى أعقاب نكسة 67 وانفراط عقدها وذوبانها فيما يسمى بمؤسسات المجتمع المدنى بينما تحولت  أقليتها إلى شظايا ضعيفة التأثير والفعالية.وللحديث بقية..                                      بشير صقر* نشرت بجريدة البديل معدلة فى 19/10/2007   ص11 .