” إفلات ” سوق العقارات المصرية من أزمة العقارات الدولية 2008 .. لماذا..؟
مقدمة :
أثارت موجة الحرائق التى اجتاحت مصر فى الأسبوع الأخير موجة غضب واسعة لدى كثير ممن تابعوها وبالذات ممن أضيروا منها ، ورافقتها تصريحات متكررة من أهالى منطقة العتبة ( الرويعى ودرب سعادة والغورية) برغبة مسئولى الإدارة المحلية بمدينة القاهرة فى نقل نشاطهم من منطقة وسط البلد إلى مناطق أخرى فى أطراف المدينة.
ونظرا لما شاهدناه فى مدينة اسطنبول فى عام 2010 من ممارسات مشابهة تؤكد قيام السلطات التركية بنقل فقراء المدينة القاطنين بأحيائها الشعبية من وسط المدينة إلى أطرافها وبما عرفناه من هؤلاء السكان- قبل تهجير بعضهم وبعده- ومن بعض الأصدقاء الأتراك من شيوع هذه الظاهرة فى المدن التركية الكبرى وخصوصا العاصمة ووقوف بعض كبار رجال الأعمال الأتراك المهيمنين على سوق العقارات وعدد من المسئولين فى السلطة وراءها وعن الفوارق الشاسعة بين أسعارأراضى البناء فى وسط المدينة وبين أطرافها ؛ وعما تابعناه فى مصر بشأن أرض ماسبيرو وعشش الترجمان بسرة مدينة القاهرة .. لم نستغرب ولم نفاجأ بتصريحات المضارين من حريقى العتبة والغورية عن رغبة مسئولى الدولة ( بالإدارة المحلية) فى إزاحة سكان المنطقتين لمناطق أخرى نائية. وهو ما ساهم – ضمن عوامل أخرى – فى ترجيحنا للأسباب الحقيقية التى تقف وراء تلك الحرائق المباغتة والمفجعة. وقد عقبنا على الموضوع بمقالين قصيرين [ قطار العقارات والتجارة يمر على عشش الترجمان..ويقترب من الرويعى والغورية .. ولا نعرف أين يتوقف..؟.] و [ كل الحرائق التى اندلعت فى الأيام الأخيرة ] نشرا على صفحتنا بالفيس بوك.
وقد لفت نظرنا ما قرأناه من تعليقات بعض الزملاء عن ” قدرة المهيمنين على سوق العقارات المصرية من تلافى أزمة العقارات الدولية التى تأججت فى عام 2008 فى الولايات المتحدة الأمريكية ” .. وهو ما دعانا لتناول الأزمة الدولية باختصار والبحث عن أسباب ” إفلات سوق العقارات المصرية ” من آثارها.
عن أزمة سوق العقارات العالمية 2007 / 2008 :
تفجرت أزمة العقارات الدولية فى الولات المتحدة الأمريكية من سنوات قليلة واندهش البعض من قلة أو انعدام تأثيراتها على مصر. لدرجة أن أحد الزملاء ( على الفيس بوك ) قد أرجع ذلك إلى مهارة وحرفية المهيمنين على سوقها فى مصر.
ولأن أزمات النظام الرأسمالى أزمات عامة وشاملة ودورية وتحكمها قوانين علمية ، ولا تشكل مهارة وحرفية المهيمنين عليها فى بعض الدول عنصرا ذا وزن فى الإفلات منها ، لذا فعدم انعكاسها على وضع العقارات فى السوق المصرية يحتاج لتفسير علمى إنطلاقا من أوضاع أزمتها الشاملة التى عصفت بسوق العقارات فى الولايات المتحدة منذ سنوات قليلة مضت.. منتقلة منها – كقطة مشتعلة- لقطاع البنوك وقطاع شركات التأمين .. وعبرت المحيط إلى انجلترا وهولندا ولوكسمبورج.. لتستوفى ملامح الأزمة الدولية لنظام يشكل أزمة أمام تقدم البشرية.
ورغم أن أزمة العقارات تفاقمت فى المراكز الرأسمالية الكبرى وأفضت لإفلاس 7 بنوك أمريكية شهيرة أهمها بنكى ليمان براذرز ، وميريل لانش إضافة إلى بير ستيرنز، وشركتين عملاقتين للتأمين هما ( فريدى ماك ، وفانى ماى) كما تجلت فى انهيار بورصة وول ستريت وتراجعات درامية فى البورصات الأوربية . واكتملت ملامحها بتدخلات شتى لبنك الاحتياط الفيديرالى ( البنك المركزى الأمريكى) فى ضخ المليارات من الدولارات فى عدد من البنوك المنهارة ودمج بعضها وتأميم البعض الآخر وهو ما جرى مثله لأحد البنوك البريطانية فضلا عن تخصيص عدد من جلسات منظمة الأمم المتحدة لمناقشة أبعاد الأزمة ومحاولات حصارها.
والجدير بالذكر أن عددا من الصحف الكبرى والعريقة على مستوى العالم قد رصّعت أغلفتها إبان اشتعال الأزمة بصور كارل ماركس- أول من تنبأ فى القرن التاسع عشر بأزمات الرأسمالية الدورية مؤكدا حتمية انهيارها- وأرفقت بها مقتطفات من نبوءاته، ومتسائلة : هل حان الحين لتحقق ما قاله ماركس..؟
هذا وقد تمثلت الأزمة المشار إليها فى الآتى :
1- قيام عدد من بنوك “الإسكان” الأمريكية فى عام 2007 بإقراض مبالغ باهظة لأعداد هائلة من الأمريكيين محدودى الدخل لشراء وحدات سكنية (قروض إسكانية) دون الالتزام بالقواعد المصرفية المعتادة .
2- وإذ لاحظت البنوك الاستثمارية ارتفاع حجم المبالغ المقترضة وأعداد المقترضين فقد أعدت عدتها لالتهام أقصى استفادة من هذه القروض.. وقامت- هى نفسها – باقتراض مبالغ هائلة من بنوك أخرى اشترت بها تلك” القروض الإسكانية الخاصة بمحدودى الدخل ” ، ثم حولتها إلى أوراق مالية متداولة فى البورصة.. وباعتها لبنوك ثالثة بأثمان مرتفعة جدا مقارنة بالثمن الذى اشترتها به.. وبذلك حصلت على فروق هائلة ( أرباح ) كما خططت .
3- لجأت البنوك المشترية لهذه الأوراق المالية ( فى بند 2) بالتأمين عليها لدى شركات التأمين .
4- ومن جهة أخرى تعثر المقترضون محدودو الدخل ( بند 1) فى سداد أقساط قروض شراء الوحدات السكنية ، فأخذتها منهم البنوك الدائنة وشرعت فى بيعها لاستيفاء مبالغ قروضها.
5- فى ربيع 2008 ونظرا لأن التعثر فى السداد كان شاملا.. ويشكل ظاهرة عجز حقيقية عن دفع أقساط القروض بما يعنى أنه حدث فى فترة زمنية محدودة وبأعداد هائلة .. فقد أسفر ذلك عن معضلة جديدة أسوأ .. تمثلت فى زيادة المعروض للبيع من المساكن عن حجم الطلب عليها فى السوق، وبذلك هوت أسعار المساكن إلى الحضيض ووقعت الكارثة.
6- فأفلست كثير من البنوك المقرضة وانخفضت أسعار أسهمها فى البورصة وكذا بعض شركات التأمين.. وتدخل البنك المركزى الأمريكى وانتقلت الأزمة إلى بنوك فى دول أخرى.. بسبب بيع الأوراق المالية السابق ذكرها لكثير من البنوك فى أوربا ، فضلا عن دخول شركات التأمين طرفا فى المشكلة.
7- هذا ويقدر حجم الخسائر الناجمة عن الأزمة بحوالى 950 بليون دولار منها حوالى 450 – 510 داخل الولايات المتحدة.
8- ورغم أن اسواق العقارات العربية لم تكن فى مركز الأزمة إلا أن بعض آثارها قد طالتها بشكل غير مباشر انعكس جزئيا على سوق العقارات والأسواق الائتمانية ؛ كما انعكس على بورصاتها المالية حيث عانى تداول الأسهم فيها من تراجع حاد مع انخفاض مؤشراتها .. وترافق مع هروب عدد من المستثمرين.
9- أما فى مصر فقد حددت بعض الأرقام الرسمية آنذاك 4 ملايين دولار كحجم محتمل للخسائر.
لماذا ” أفلتت” سوق العقارات المصرية من براثن الأزمة العالمية عام 2008 ..؟
فى حقيقة الأمر كان انعدام الصلة المباشرة بين سوق العقارات المصرى والأزمة العالمية سببا فى النجاة النسبية من آثارها المباشرة .. وقد تركزت الآثار غير المباشرة فى الآتى :
•تراجع جزئى لقيمة أسهم الشركات المسجلة فى البورصة عن قيمتها قبل الأزمة.
•لجوء المستثمرين الأجانب فى البورصة لتسييل محافظهم ( بعمليات بيع مكثفة أفضت لتراجع حاد ؛ واتخذ المستثمرون المحليون نفس الإجراءات تقريبا .
•حدوث تباطؤ فى النمو الاقتصادى مقارنا بالسنوات السابقة على الأزمة العالمية.
•وفى مصر تعثرفى تمويل بعض المشروعات ، وتراجع فى معدلات المنح الأجنبية ، والخفاض نسبى فى دخل السياحة ، وتأثر محدود لبعض الأرصدة المصرية الحكومية الموجودة فى البنوك الغربية.
•توقع عدد من العاملين فى قطاع العقارات آنذاك لانخفاض أسعارها فى عامى 2011 و 2012 .
•هذا فضلا عما توقعته بعض الجهات الرسمية عام 2008 من خسائر تقترب من 4 مليارات دولاربسبب الأزمة.
•ويضيف عدد من الخبراء أسباب ” إفلات مصر من الأزمة ” بتوضيح : أن الطلب على المساكن فى مصر أساسه السكن بينما فى الخارج وتحديدا فى الولايات المتحدة فأساسه الاستثمار والمضاربة ، علاوة على محدودية نسبة الممول من البنوك من الثروة العقارية المصرية ، كذلك فمعدل زيادة السكان المرتفع فى مصر يرفع الطلب على السكن لوجود مايقرب من 30 % من الشباب والفتيات راغبين وفى سن الزواج ، وانخفاض القدرة الشرائية لكثير من قطاعات السكان على شراء المساكن، ويرى بعضهم أن حالة الركود النسبى فى سوق العقارات آنذاك ينذر بانخفاض أسعارها فى السنوات القليلة التالية حتى لو انخفضت أسعار مواد البناء.
• من جانب آخر فانحصار الرقعة المأهولة بالسكان فى 1/ 40 من مساحة مصر لا يعطى مجالا للتوسع سوى فى الأرض المتاخمة للوادى والدلتا سواء بالاستصلاح الزراعى أو ببناء المدن الجديدة وهو ما يتطلب إمكانيات مالية كبيرة ويراعى أن يكون التوسع المفترض كافيا لاستيعاب الفلاحين الذين ضاقت بهم أرض الوادى والدلتا وأنانية الدولة وإهمالها وضيق أفقها من ناحية وألا تقتصر أهداف التوسع العمرانى على السكن بل ترتقى لاستيعاب طاقات المهجرين فى العمل.
•ونظرا لصعوبة التوسع بالمواصفات التى نطرحها فى ظل الأوضاع الحالية التى تعيشها البلاد تمثل حيازة الأرض ( زراعية أو للبناء) كنزا ثمينا لحائزها ، وتمثل أسعارها استثناء من أسعار الأرض فى دول الغرب أو حتى للسلع الأخرى فى مصر.
•كما تشكل زيادة السكان ومعدلاتها المرتفعة ووجود نسبة عالية من السكان فى سن الشباب عاملا داعما لزيادة الطلب على المساكن.
•وبسبب الضربات التى وجهت للصناعة والزراعة وتدهور الإنتاج فى كل منهما ونظرا لزيادة أعداد العاطلين- نتيجة لسياسة المعاش المبكر؛ وبسبب طرد فقراء الفلاحين من الأرض المستأجرة وأراضى الإصلاح الزراعى والأوقاف؛ ووقف تعيين الخريجين؛ وتوقف استصلاح الأراضى وتوزيع المتوفر منها على كبار رجالات الدولة والمتنفذين وحكام الأقاليم والعرب وحرمان غيرهم من فقراء الفلاحين منها ؛ فضلا عن أزمة الإسكان الريفى المستفحلة والمستعصية على الحل -صارت التجارة وسوق العقارات المجالين المتاحين للعمل والنشاط بالمقارنة بالزراعة والصناعة .. وهذا ما ساهم فى السعى لإزاحة سكنى الفقراء ومواقع عملهم بعيدا عن قلب المدن وخصوصا المدن الكبرى . وهناك أمثلة شتى لذلك خاصة بمدينة الإسكندرية حيت اجتاحتها فى العشرين سنة الأخيرة حمى البحث عن كل المساكن القديمة وبالذات مساكن الفقراء لهدمها وإقامة الأبراج السكنية مكانها بالمخالفة لكل بديهيات وقواعد ولوائح البناء.. وطاقة المرافق واتساع الشوارع وكثافة الطرق.. بل وتوفر الهواء والضوء.
لكل ذلك كان الطلب على السكن شديدا ، وهو ما شكل العامل الأساسى فى حمى النشاط العقارى وما استتبعه من عملية ” إحلال وتجديد ” لسكان المدن الكبرى ولمقار سكناهم وأماكن عملهم.
وهو أيضا ما جنبها كثيرا من الآثار المباشرة للأزمة العالمية التى امتدت لمجال المال والمصارف بعد اندلاعها فى سوق العقارات بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 – وطال بعض رذاذها عددا من البلدان العربية – ولا يعود الفضل فى ذلك إلى مهارة المهيمنين على سوق العقارات المصرية أو إلى بعد نظرهم .
الإثنين 16 مايو 2016 بشير صقر