حول الراحلة شاهندة وكمشيش حوار .. صحيفة الجنــــــوبى مع بشير صقر
س1- هل حضرت واقعة كمشيش – ويومياتها والمحاكمة وحدود معرفتك بشاهندة ؟
ج1- واقعة الاغتيال لم أحضرها .. ولا تحقيقات المباحث الجنائية العسكرية .
تعرفت على الكمامشة فى نوفمبر 1967 ؛ وعرفت صلاح حسين من خلال مئات القصص عنه من فلاحى القرية .
حضرت المحاكمة كاملة وقد أعيد التحقيق فى قضية الاغتيال من خلال القاضى (مستشار / الصادق المهدى) .
أعرف شاهندة جيدا جدا وأعرف تفاصيلها وكيف تفكر .وأعرف أسرتها فردا فردا رجالا وسيدات منذ عام 1967 ، وكان أخوها ( كامل ) فى نفس الصف الدراسى معى وإن لم يكن فى نفس الشعبة ( كان فى الشعبة الأدبية ) وكنت فى العلمية . وكنا نقطن فى فترة.. فى منزل مقابل لمنزل صلاح ، وفى فترة أخرى فى منزل مقابل لمنزل شاهندة فى مدينة شبين الكوم .
لم أكن أعرف صلاح آنذاك ، لكنى كنت أعرف شقيقه الأصغر حامد ( الطيار ) معرفة إبن الحتة .. لأنه كان أكبر منى سنا.
س2-ماهو جوهر معركة كمشيش ؟ وهل كان أهالي القرية طرفا في المعركة ؟ ولماذا تصاعدت.. ؟
ج2- ما كان فى كمشيش لم يكن مجرد معركة ، كان صراعا بين الأسرة الإقطاعية وبين الفلاحين لسنين ممتدة ، لكنه تفجر بعد 23 يوليو 52 ، ولعب الدور الأساسى فيه صلاح حسين وساعده عدد من أقرانه من طلاب القرية ، لأن صلاح لم يكن من القرية ولكن أمه .. وخاله ( عبد الحميد شوقى مقلد ) والد شاهندة كانا من كمشيش ، ونظرا لحبه لخاله- ( الذى كان وفديا وشخصا نظيفا ومستقيما )– وإعجابه بأفكاره جعله قريبا منه ، ولآن صلاح كان يقطن مدينة شبين الكوم فكان يتردد على كمشيش ( 12 كم من شبين ) وقد تشكلت له مع القرية وشائج متعددة وقوّى ذلك ارتباطه بها .
وتعرفه على طبيعة العلاقة بين الفلاحين والإقطاع مكنه من التدخل حيث انتهز فرصة حضوره عزاء فى القرية وأمسك بالميكروفون محدثا الحاضرين والفلاحين بأن هناك ثورة تفجرت فى مصر وهناك قانون للإصلاح الزراعى ، وما على الفلاحين إلا رفض السخرة التى تحكم علاقة الأسرة الإقطاعية بالقرية .. وهو ما كان أشبه بالزلزال وأثار إعجاب الفلاحين به إلى جانب إثارة خوف البعض من الذين لا يتجاسرون على الجهر برفض السخرة .
من جانب آخر تعرف ببعض الفلاحين النابهين الذين توسم فيهم القدرة على المواجهة وأوضح لهم كيف أن عائلة الفقى بكاملها لا تستطيع أن تزرع بمفردها أكثر من 150 فدانا دون الاستعانة بالفلاحين ( بالسخرة أو الاستئجار) ، ولذا فامتناع الفلاحين عن الانصياع للسخرة لن يمكنها ( أى الأسرة ) من زراعة الأرض التى لديها وستبور ، وبذلك يبدأ الفلاحون أولى عمليات المقاومة .
تطورت الفكرة السابقة ( الامتناع عن السخرة ) إلى الدفاع عن مصادر مياه الرى التى تعمدت الأسرة حرمان الفلاحين منها .. وكان لابد من الصدام والعنف .. فاندلعت 3 معارك مسلحة ( السد – الملّال – العربان ) بين عامى1953 – 1957 قتل واستشهد فيها البعض من الطرفين وفى إحداها سقط 17 جريحا. وقد استهدفت الأسرة الإقطاعية بعض قيادات الفلاحين واغتالتهم وفى المقابل استهدف الفلاحون مخزن سلاح وذخيرة الأسرة الإقطاعية وتم الاستيلاء على بعض ما فيه ..إلخ .
باختصار كأن الفلاحون طرفا أصيلا وكان منهم قادة لثلاثة أجيال متعاقبة مثل عبد الحميد عنتر وإيراهيم عبد المقصود ومحمد عزام ورمضان أبو ضلمة.. والبسيونى عبد الخالق وعبد الله شريف وعبد الحق أبو لبن وأحمد خليفة وغيرهم .
وبعدها أحمد رجب وعبد الحميد عطية وعيد حمودة وعبد الرازق عبد الصمد .
وتلا هؤلاء الشربينى تعلب وعلى عزام وفتحى تعلب وعبد المجيد الخولى وعاشور شريف وعبد الستار عبد الخالق.
أماالطلاب الذين شكلوا القيادة الفكرية والسياسية للصراع مع صلاح فكانوا [ حسن سلامة ،وعبد الله عمارة ، وعبد الستار تلة ، وعلى أمان ، ومحمد رجب، ، ومحيى بحيرى ] والتحق بهم من الأجيال التالية (موسى أبو لبن ، وكمال عطية ، وربيع عيسى ، وشوقى شريف ، وبدراوى أمان ، والسيد مقلد، و محمود النجار ، والدمرداشى النجار ، ورجب حرحش ، ونوال أبو شافعى ) .
هذا وقد ساهمت العوامل الآتية فى استمرار الصراع وتصاعده :
•تهرب الأسرة الإقطاعية من تطبيق قانون الإصلاح الزراعى الأول طيلة الفترة من 1952- 1960 رغم تكرار الإبلاغ عنها.
•شراسة الأسرة وإصرارها على مواصلة سطوتها القديمة ( حرق المنازل، حرق وتقليع المزروعات ، تسميم المواشى ،الشهادة الزور، اغتصاب واستبدال الأراضى بالإكراه، حجب مصادر مياه الرى، تلفيق القضايا للفلاحين، إيواء الخارجين على القانون.
•الاستعانة برجال الإدارة والمتنفذين فى عدد من الأجهزة ذات الصلة ( الشرطة ، الإصلاح الزراعى ، الشهر العقارى ، هيئة المساحة ) فى تدبير وممارسة التجاوزات السابقة وتهديد الفلاحين والحيلولة دون تفعيل شكاواهم.
•تنامى شعور الفلاحين بقوتهم وإصرارهم على الحصول على حقوقهم بتطبيق قوانين الإصلاح الزراعى، ومصادرة قصورهم وتحويلها إلى مرافق خدمية ( مدرسة ،مستشفى ، بيت تقافة ، مركز إعلامى ..إلخ) .
س3- من هو صلاح حسين ؟وماصحة انه إخواني او ماركسي؟ وهل دخوله الاتحاد الاشتراكي يعني كونه جزء من السلطة؟
ج3- كان صلاح إبن مفتش تموين شريف ، ولد عام 1929 ، وكان طالبا بكلية الآداب بالإسكندرية لكنه أرجأ الدراسة لانشغاله بالعمل السياسى، ذهب إلى غزة عام 1948 من خلف ظهر أسرته للتطوع فى الحرب ضد الصهاينة فى فلسطين لكنه كان أصغر من سن التطوع فعاد أدراجه ، وانخرط عام 1951 فى المقاومة المسلحة للاحتلال البريطانى فى منطقة السويس مع وسيم خالد أحد العناصر المدنية ذات الصلة القوية بتنظيم الضباط الأحرار.
وقد اصطدم صلاح مبكرا بجماعة الإخوان المسلمين التى ماطلته بشأن دعم فلاحى القرية ضد الأسرة الإقطاعية ، فحرمها من افتتاح مقر لها بالقرية وقطع صلته بها نهائيا. وكان زوج أخته عضوا بالجماعة . التقى بالفكر الاشتراكى إثر إقامته بالإسكندرية مع المهندس محمد طه عام 1953 ( الرئيس اللاحق لمجلس إدارة شركة أسمنت طرة ).
كان فى الممارسة اشتراكيا حقيقيا ، ولم تكن أجهزة الأمن السياسى قادرة على اصطياده رغم خطورة نشاطه العملى إلا بالتهمة الجاهزة فى تلك الأيام ( 1954 وما بعدها) وهى الانتماء لجماعة الإخوان ، ولأنها لم تكن كافية لتقييد حركته فقد تم تحديد إقامته بشكل متقطع فى الإسكندرية (حيث محل دراسته وإقامته ) وفى شبين الكوم (حيث تقيم أسرته ) وعزله سياسيا أى حرمانه من حقوقه السياسية وهو ما يعنى أنه لم يكن عضوا فى تنظيم الاتحاد الاشتراكى أو التنظيم الطليعى.. وقد غطت إجراءات القبض عليه وتوقيفه وحبسه فى السجن الحربى ، وتحديد إقامته ، وعزله سياسيا مجمل عمره السياسى تـقريبا ( أى منذ عام 1952 وحتى اغتياله فى 1966 ) .
وعموما أعتقد أنه من أفضل المناضلين الذين تمكنوا من التعامل مع سلطة يوليو وأعظم من قادوا الفلاحين فى مصر ، وكانت عقليته النقدية وقدرته العالية على التحصيل وعلى قراءة الواقع مذهلة .. حيث أنه تنبأ بما سيحدث للنظام الحاكم فى مصر وبأنه سيتعرض لمواجهات شرسة وشيكة من الاستعمار وذلك فى مذكرته التى قدمها لعبد الحميد غازى أمين الفلاحين بالاتحاد الاشتراكى يوم اغتياله 30 إبريل 1966 .
وأعتقد – باعتبارى واحدا من المشاركين فى النشاط السياسى فى كمشيش اعتبارا من أول عام 1968- أن صلاح حسين حما فلاحى كمشيش ومقاومتهم المستميتة للعائلة الإقطاعية من المفرمة المزدوجة لـ ( الإقطاع / السادات) بإعلانه أن ثورة كمشيش بنت ثورة يوليو وبتشكيل مجموعة من أهالى كمشيش للمشاركة فى الدفاع عن بورسعيد إبان العدوان الثلاثى على مصر عام 1956وإبلاغه المتكرر عن تهرب الإقطاع من قانون الإصلاح ؛ خصوصا وأن شراسة الإقطاع فى كمشيش ودعم أجهزة الدولة لها لم تكن مسبوقة والتى دعمها السادات بانحيازه السافر لها الذى تمثل فى تسريب عزم سلطة يوليو على إصدار قانون الإصلاح الزراعى مما مكنها من اتخاذ الاحتياطات التى يسرت لها التهرب من تطبيقه ؛ فضلا عن إلقائه – أى السادات- بعشرين فلاحا فى معتقل قنا لمدة 20 شهرا دون محاكمة.. إثر رفضهم توصيته بمصالحة الأسرة الإقطاعية.كذلك كانت علاقته بوسيم خالد السابق الإشارة إليها أحد العوامل التى ساعدت فى تلك الحماية.
وكانت العوامل السابقة مجتمعة قد ساهمت لدى عديد من المثقفين فى تصنيفه ناصريا ، ولو كان كذلك لأفصح عنه دون مواربة ولما حرمه النظام الناصرى من حقوقه السياسية أو حدد إقامته أو ألقى به فى السجن الحربى .
س4- ما صحة ان معركة كمشيش كانت معركة سلطة قادها شقيق عبد الناصر وشمس بدران..؟
ج4- تقديرى لاغتيال صلاح حسين هو أن الأسرة الإقطاعية أخذت بثأرها ممن قض مضاجعها أينما كانت وحلّت .. ولولا صلاح لتهربت الأسرة من كل قوانين الإصلاح الزراعى وليس القانون الأول فقط ، .. رغم أن جملة الإجراءات والقوانين التى استهدفت كبار ملاك الأرض آنذاك تولت إسقاطهم سياسيا وأخلاقيا وتكفلت قوانين الإصلاح الزراعى بمحاصرتهم اقتصاديا .. ومن هنا كان ثأرهم من النظام متمثلا فى اغتيالهم لصلاح باعتباره من أحيا تطبيق القوانين والإجراءات التى تفادوها بتهريبهم للأرض.. وتهربهم من تطبيق قوانين الإصلاح الزراعى.
لكن المستفيد الرئيسى من اغتياله كان النظام الحاكم وليس الإقطاع ؛ لماذا ؟ لأن الأمر كان قد استتب للنظام نهائيا ولم يعد كبار الملاك العدو الذى يُخشى جانبُه ، فالأرض صودرت وتم توزيعها على الفلاحين وصارت للنظام أرضية وأنصار فى الريف . لكن ما ظل صلاح يفعله مع الفلاحين كان ينذر – على المدى الأبعد – بمخاطر محتملة .. خصوصا وأنه كان بالغ النشاط متقد الذهن شديد المراس موحيا بصعوبة مواجهته سياسيا .. فهو صلد العريكة لا يسهل شراؤه أو تطويعه ، وهو من يحول أفكاره فى التو واللحظة إلى كائن حى يمشى على أرجل وله قاعدة شعبية مساندة .. هكذا كان النظام ينظر إليه.
لقد تحايل صلاح على عزله سياسيا باستخدام التنظيم السياسى الوحيد بمصر فى توعية فلاحى القرية ، حيث كان كثير من مناصريه أعضاء فيه ، وهو ما سمح له بأن يدفعهم لتشكيل لجنة اسمها لجنة الدعوة والفكر الاشتراكى استخدمها فى مناقشة كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والفلاحية مثل قضايا الديمقراطية ، والاصلاح الزراعى وفائض القيمة إضافة إلى قضية المزارع التعاونية التى لم تلق مناقشتُها رغبة ممثلى النظام الحاكم ولا أجهزته الأمنية واستغلوها فى افتعال الضجيج وإثارة الغبار حول صلاح وزملائه .. واعتبرها بعض اليساريين وربما بعض الأصدقاء قفزا على الواقع أو تجاوزا له .. وأكد بعض آخر أنها عجلت بالتخلص منه .
وعموما فقد اقتصرت تحقيقات النيابة العامة التى جرت فى أعقاب الاغتيال على الجانب الجنائى بينما الحقيقة ساطعة كالشمس وتفصح عن دوافع سياسية خالصة. وهو ما دفع شاهندة للاستعانة بحسين عبد الناصر- ” زميل دفعة ” شقيقه حامد حسين فى كلية الطيران لإطلاق القضية من قفصها الذهبى ( جناية قتل )- الذى لجأ بدوره لوالد زوجته ( المشير عامر )؛ وفورا تمت إحالتها للمباحث الجنائية العسكرية التى كلفت ستة من رجالها بتحقيق القضية وتنحية أجهزة الشرطة المدنية المناوئة.. وإحالتها إلى النيابة العامة بأبعادها الجديدة. وفى نفس الوقت- واستنادا إلى ما غاب عن النيابة العامة – تكشفت فضائح شتى يتجاوز عمر بعضها الخمسين عاما وتتعلق بالجرائم التى ارتكبتها العائلة الإقطاعية فى حق الفلاحين وأفصح بعضها عن ضبط عقود بيع الأرض المهربة وتزوير عقودها ( 10 عقود ) وضبط أختام ( الموقعين عليها بعد وفاتهم ) ومن حرروها ومن شاركوا فى دسها دسا ضمن أوراق الشهر العقارى وخرائط هيئة المساحة من الموظفين .. مع اعترافات تفصيلية لمعظمهم بما ارتكبوه وما تلقوه مقابل التزوير والتلفيق والدس من رشاوى بل والأماكن والتواريخ والأشخاص الذين تسلموها منهم . بخلاف أمور أخرى متنوعة لا تقل خطورة عن تهريب الأرض.
باختصار كان هذا التدخل من رجال المباحث العسكرية الستة بمثابة اقتحام الأوكار التى اختفت فيها مستندات وبراهين تلك الجرائم .. حيث تمت فى وقت واحد مما حال دون تهريبها أوإعدامها .
لكن كل هذه الدراما – التى ساهمت فى إظهار النظام الحاكم كمدافع عن الفلاحين وأضافت لرصيده الكثير – تم توظيفها فى القضاء على ظاهرة مقاومة الفلاحين التى دشنها اغتيال قائدهم ؛ وتواصلت بعد ذلك بالقبض على قادة القرية بعد عشرة أشهر فقط من حادث الاغتيال وإيداعهم سجن القلعة لشهور لحرمانهم من الاحتفال بالذكرى الأولى لاستشهاد صلاح حسين.. واستمرت بسفور أشد بعد أربع سنوات أخرى بإبعاد واحد وعشرين منهم إلى محافظات الصعيد. وهنا نأتى لما قيل عن تواجد حسين عبد الناصر وشمس بدران فى التحقيقات التى برهنت المضبوطات أن وجودهما مثل عدمه .. فحجم المضبوطات مذهل ؛ وتفاصيلها والوقائع التى تضمنتها يملأ كتبا للتاريخ لو أراد النظام؛ ودلالاتها تجعل وزن جريمة اغتيال صلاح حسين محدودا مقارنا بها . لقد مثلت المضبوطات والتحقيقات بشأنها سجلا جنائيا وسياسيا وأخلاقيا مخزيا فى مجتمع قام بثورة ضد أصحاب ذلك السجل وأعاد توزيع جزء من الثروة على فقرائه ومعدميه فى الريف.
إن الحقيقة التى لا يمكن التشكيك فيها هى أن الرجال الستة الذين قاموا بالتوجه لكمشيش لإعادة التحقيق فى القضية – والقبض على رءوس العائلة الإقطاعية ثم فض خزائن المحفوظات والمستندات فى أوكار الأسرة بالقرية والإسكندرية والقاهرة وغيرها فى لحظة واحدة – هم أصحاب الفضل الأول فى كشف كل ما نشر عن دور الأسرة الإقطاعية فى القتل وتلفيق التهم وتزوير العقود وتهريب الأرض وتقديم الرشاوى ودس المستندات المزيفة فى أضابير السجلات الحكومية وشراء ذمم الموظفين ورجال الإدارة والتنكيل بالفلاحين وتسخيرهم فى زراعة الأرض واغتصاب أراضيهم وتقليع زراعاتهم وحرق منازلهم ومحاصيلهم التى على وشك الحصاد وتأجيرالأرض بعقود إيجار على بياض ، فضلا عن تشكيل العصابات وإخفاء المجرمين المسجلين وإيواء الخارجين على القانون.. تحت سمع وبصر عدد من ضباط المباحث الذين تولى أحدهم فيما بعد وزارة الداخلية.
إن مقارنة ما أشيع عن المعاملة العنيفة لأفراد العائلة الإقطاعية – وعملائها من قِبل رجال المباحث العسكرية الستة على مدى أربعة أو خمسة أسابيع – بذلك السجل المخزى على مدى قرن من الزمان لايمثل سوى نقطة فى بحر .. رغم أننا لا نناصر ذلك العنف ولا نوافق عليه .. فقط نحاول التفسير والاستنباط والمقارنة.
أما ما أثيرعن تواجد شمس بدران تحديدا فى التحقيقات فهدفه إلحاق صفحته – التى لا وزن لها – فى هذه القضية بصفحات كتابه الذى يعرفه الكثيرون منا.. ولايروق لهم .. وبالتالى يربح المثيرون بنطا فى قضيتهم الخاسرة.
س5- ما هورأيك في شهادات مواطنين بوقوع تعذيب، كالفلاح كامل حجاج (ضربوني حتى خرجت أظافري من قدمي )- وهل صحيح ان شاهندة حضرت التحقيقات والتعذيب ..؟
ج5- أولا : معظم هؤلاء.. هم رجال وصبيان الأسرة الإقطاعية وخدمها ومشاركون فى كثير من الجرائم المرتكبة ضد الفلاحين .. وجملة الادعاءات بالتعذيب صدرت من هؤلاء .. ومعظمها فى عهد السادات الذى كان منحازا بشدة للأسرة الإقطاعية.. وله وقائع مباشرة مع الفلاحين غير ما سبق ذكره أقص لك بعضها :
•ففى أعقاب شحنه لعشرين فلاحا إلى معتقل قنا فى بداية خمسينات القرن الماضى.. كان متوجها بزى مدنى إلى قريته ( ميت أبو الكوم ) وأمام قرية كمشيش ترجّل من سيارته .. ونادى فلاحا كان يعمل فى حقله وطالبه ( بقلة مياه) ليروى ظمأه .. فأحضرها له .. وسأله السادات : إنته منين ..؟ فرد الفلاح : من كمشيش . فاستفسر السادات منه عن أحواله وأحوال القرية . فأفاده الفلاح : أحوالى ماشية زى بقية الناس .. فاستطرد السادات : طيب وأحوال الناس والبلد إيه ..؟ . أجاب الفلاح: والله من يوم السادات ماجه هنا و رحّل الفلاحين للمعتقل من غير ذنب والحالة مش كويسة .. وأضاف : الله يجازيه .. مش عارف هوه ما بيحبش كمشيش ليه..؟ . وهمّ السادات بالتحرك نحو سيارته .. فدعاه الفلاح :إتفضل معانا الغدا. فشكره السادات على الماء.. واستأنف سيره نحو قريته.
ولأن أحد المارة كان قد تعرف على السادات أثناء مروره .. عاد ليسأل الفلاح : هو أنور السادات كان بيقولك إيه ..؟ فرد الفلاح : هوه دا السادات..؟ فأجابه الرجل : أيوه هوه . قال الفلاح : بيسألنى إنته منين و عامل إيه وبس. بعدها وفى المساء عرفت القرية كلها بالواقعة .. وظل الفلاح منتظرا .. أن يلحق بزملائه إلى قنا ..
•وواقعة أخرى : فى إحدى زياراته لكمشيش .. بغرض إبرام صلح بين الأسرة الإقطاعية والفلاحين فى نفس الفترة تواجد السادات فى أحد منازل القرية .. عند أحمد خليفة .. ونظرا لغضب الفلاحين منه استغلوا وجوده وتجمهروا حول المنزل وألقوا بعدة هتافات منددة استفزت السادات فنزل من المنزل .. وطلب منهم الانصراف فرفضوا .. فتوجه لمجموعة منهم مطالبا بصرفهم .. فانبرى أحدهم قائلا : (يلا يا رجالة اتوكلوا على الله .. كل واحد على بيته) .. فانفض التجمهر ؛ وإذا بالسادات يطلب من بعض مصاحبيه من رجال المباحث القبض على هذا الرجل وقال له : مادام انته مشيتهم تبقى إنته إللى جبتهم .
وبخصوص حضور شاهندة التحقيقات فهو مجرد شائعات تسعى لإلصاق تهمة تحريض رجال المباحث العسكرية على المتهمين بها .. أما الحقيقة فتتمثل فى الآتى :لأن رجال المباحث لم تكن لديهم معرفة مسبقة بالتضاريس السياسية للقرية على عكس رجال الشرطة المدنية كان من الضرورى الاستعانة بمن يعرفها ولذلك استعانوا بعدد من قادة الفلاحين وهو ما أسهم فى إنجاز التحقيقات بسرعة ، علاوة على أن شاهندة لم تحضر التحقيقات ولم تحاول التصرف بشكل ثأرى وهو ما يحسب لها وأصرت على التعامل فى الموضوع برمته بشكل سياسى يركزعلى المتهمين الأساسيين مدركة أنه بالنسبة لبعض المتعاطفين مع الأسرة الإقطاعية من أهالى القرية – سواء لدواعى القرابة أو المصلحة أو التاريخ – فقد كانت متأكدة من أن التوصل للمتهمين الأساسيين – سواء بالتحريض أو القتل– سيعيدهم ( أى المتعاطفين ) إلى صوابهم ويدفعهم إلى السير بجانب الحائط تجنبا لمصير لا يرغبونه .. ومن هنا تم تقليص عدد مَن وُجهت لهم الاتهامات . أما فيما يتعلق بعدد من تم التحقيق معهم فلم يقتصر ذلك على جريمتى القتل والتحريض بل كانت هناك جرائم أخرى –أشرنا إليها – تمت مساءلتهم بشأنها .
س5- محمد السيد حلاوة (اطلقوا على الكلاب المتوحشة) -مصطفى كامل (شاهدت صلاح الفقي يرتدي الطرحة) – تقرير المحكمة (ودربت الكلاب على مواطئة الرجال).
ج5- أماعن أقوال المتهمين والشهود :
أ-محمد السيد حلاوة مدير عام الإصلاح الزراعى بالمنوفية : أولا :هو أحد المتهمين وساعد العائلة على التهرب من تطبيق قانون الإصلاح . وثانيا : كان وهو مستمر فى الخدمة يعمل فى أرض العائلة الإقطاعية ، وكم من الشكاوى المباشرة أو التى حولت إليه من الهيئة العامة للإصلاح الزراعى طيلة المدة من صدور قانون الإصلاح وحتى عام 1960 تؤكد ملكية العائلة لآلاف الأفدنة فى كمشيش وخارجها وفى محافظات أخرى – وهو باعتباره مديرا للإصلاح ومهندسا بأرض العائلة ويتواجد بها عدة أيام أسبوعيا يعلم الحقيقة جيدا ورغم هذا كان يصف الشكاوى بالكيدية حتى تم تشكيل لجنة من داخل هيئة الإصلاح بالقاهرة برئاسة سعيد رحمى؛ فحصت الأرض على الطبيعة على مدى عدة شهور وسجلت فى تقريرها التهرب من تطبيق القانون ومساحته وأفضى تقريرها إلى مصادرة كافة أراضى العائلة بما فيها ما كانت تحتفظ به كحد أقصى لملكية الأرض؛ كما تم إبعاد أفرادها جميعا عن القرية . ولذلك من الطبيعى أن يسير فى زفة ” الضحايا ” ويردد ما يقولونه على الأقل ليبرر تورطه فيما ارتكبه من جرائم.
ب- أما مصطفى كامل عزب عضو مجلس الأمة ( البرلمان ) فلم أسمعه فى المحكمة يدلى بتلك الأقوال.
ج-وبالنسبة لتقرير المحكمة فلم أقرأه .. وأعقد – حسبما جرت وقائع المحاكمة – أنها انحصرت فى تحقيق جناية القتل ولم تلتفت لباقى الجرائم ، ولم تحقق فيها .. ومن هنا فإن ما تم الإدلاء به من أقوال من المتهمين كان غرضه الأول هو التملص من التهم ونفيها وإظهار أن أقوالهم المدونة فى تحقيقات المباحث العسكرية قد تم الحصول عليها بالإكراه .. فهو مبررها الوحيد.
س6- لماذا لم نسمع حتى اليوم شهادات اخرى في قضية كمشيش غير شاهندة من جهة وآل الفقي من جهة اخرى..؟
ج6- أحداث 1966 فى كمشيش ملأت الصحافة أيامها لشهور ، وبعدها إبان المحاكمة التى عقدت فى صيف 1968 أى بعد النكسة .. حيث ظهرت الميول الرجعية ليس فى مصر وحدها بل فى المنطقة كلها وارتفعت أصوات كل المختبئين فى الشقوق ، وفى عهد السادات ظهرت بعض الأصوات فى الصحافة أغلبها معادى للفلاحين . وعموما الموضوع يحتاج لمجموعة من الكتبة ومجموعة من جامعى المعلومات والوثائق .. وهو فوق طاقة شاهندة ، أما آل الفقى فليس لديهم ما يقولونه أكثر من قصة التعذيب الذى “عانوا” منه إبان الأيام الأولى لتحقيق القضية .. وقصة ( شيوعية عبد الناصر ) الذى صادر أرض الأسرة “الكريمة” .. أما عندما يتم التطرق للتفاصيل التى تناولنا بعضها فلا يكون أمامهم سوى اتهام الناس بالسب والقذف.
خلاصة القول أن من تحدثوا عن الموضوع لصالح الإقطاع لم تكن وظيفتهم مناقشته بقدر ما كانت الهجوم على سياسات وعهد عبد الناصر.
وعموما أنت تدرك قصة الإعلام إبان عهدى السادات ومبارك ‘ علاوة على هوجة الهجرة لبلاد النفط التى أسهمت ليس فى ضآلة الحديث فى هذا الموضوع بل فى أمور كثيرة أخرى وانكفاء المواطنين على لقمة عيشهم ، أما فى السنوات الأخيرة من تسعينات القرن الماضى وبعد تنفيذ قانون الإيجارات الجديد ( 96 / 1992 )- الذى أطاح بمئات الألوف من المستأجرين خارج أراضيهم ورفع أسعار إيجارات الأراضى حوالى أربعة أمثال ما كانت عليه – فقد شهدت بعض الكتابات فى جرائد حزب التجمع .. ناهيك عن أن اتحاد الفلاحين الذى من المفترض أن يكون أكثر الجهات تناولا لهذا الموضوع لم يقم كما يجب بالمهمة بل وتبعثر بعد صدور قانون الإيجارات. من ناحية أخرى فمثل هذا الموضوع لن يكتب فيه سوى اليسار الذى ظلت أوضاعه تتدهور بدءا من عهد السادات وحتى الآن.
الإثنين 13 يونيو 2016