القصة الأخيرة فى الزراعة
القصة الأخيرة فى الزراعة
بشير صقر
الحوار المتمدن-العدد: 5779 – 2018 / 2 / 6 – 23:54
المحور: الصناعة والزراعة
هناك بديهية لا يحب كثير من الحكام ورجال الأعمال الرأسماليين أن يتذكروها تتلخص فى أنه ” لا زراعة فى أى مكان فى العالم دون فلاحين ” والحديث عن أحدهما متلازم مع الحديث عن الآخر شئنا أم أبينا .
فالفلاح شئ .. ومالك الأرض شئ آخر. فمالكها يمكن أن يؤجرها لغيره ؛ أو يستخدمها استخدامات أخرى لا صلة لها بالزراعة ، أو يستأجر عمالا لزراعتها ويشرف عليهم وهو فى الحالات الثلاث ليس فلاحا ، أما إن زرعها بنفسه أى بيديه.. ساعتها يصير فلاحا .
فإذا ما وجد أن عائدها فى الحالات الأربعة السابقة أقل من عائد ثمنها لو استثمره فى مجال آخر أو فى البنوك باعها وغيّر نشاطه أو حول ثمنها لوديعة مصرفية تدر عائدا.
إذن فالفلاح هو من يفلح الأرض أى يجعلها صالحة للزراعة و يمهدها وينتج منها الخيرات :
فيقتلع منها النباتات والحشائش البرية ويحدد قنوات الرى ( إليها وداخلها ) ، ويصنع مسارب أخرى لصرف الماء الزائد عنها ( فى حالة رى الحياض .. أو زراعة الأرز )، ويشقها ويقلبها بمحراثه ويعرضها للشمس والهواء ، وربما يحفر بالقرب منها مصارف صغيرة لخفض منسوب الماء الأرضى ، ويسوى سطحها ويتحكم فى مستوى انحدارها ، ويخططها لتسهيل ريها وزراعتها ، وينثر البذور ويرويها ، ويقوم بعملية الخف ( تقليل أعداد النبتات البازغة ) ليتناسب عددها مع المساحة المحيطة بها من الأرض من حيث الإمداد بالغذاء أو لإتاحة الفرصة لمرور الهواء بينها عندما تكبر تيسيراً لبعض العمليات الحيوية الداخلية ولانتقال حبوب اللقاح منها وإليها .
ويقوم بعزقها لتمهيد التربة وتنعيمها حول سيقان النباتات لمزيد من تثبيتها بالأرض تحوطا لتيارات الهواء الشديدة وحرصا على احتفاظها بنسبة من رذاذ المياه والهواء تساهم فى تحملها درجات الحرارة المرتفعة .
و ” يخف ” أحيانا أوراقها – أى يقلل عددها – قبيل عملية الإزهار وعقد الثمار لتحويل الغذاء من الأوراق إليها ولتعريضها لمزيد من أشعة الشمس لإسراع إنضاجها .
ناهيك عما يقوم به من علاج للتربة بإضافة بعض المواد الطبيعية كـ ( تراب الأفران ) أو الجبس أو السماد العضوى وغيرها … وعشرات العمليات الصغيرة والهامة التى تتطلب يقظة تامة ومراعاة مستمرة وعيونا لماحة مثل ريّها بما يتناسب مع احتياجاتها المائية ( محدودة أو غزيرة ) أو تسميدها ( بنوع من السماد أو آخر ) فى لحظات بعينها استنادا إلى حالة الطقس واحتمالات سقوط المطر وعمر النبات أوظهور أعراض محددة تتطلب إمدادا خاصا و نجدة عاجلة بنوع معين من السماد.
صحيح أنه قد لا يدرك الأسس العلمية لكثير من هذه العمليات الصغيرة لكن حاسته وخبرته ودقة ملاحظته تمكنه فى غالب الأحيان من معرفة الكثير منها وتسهل له إدراك نتائجها والربط بينها وبين الأسباب حتى ولو لم يعرف أسسها .. إلا أن الخبرة العملية تظل هى المحدد لما يتخذه من قرارات وما يقوم به من ممارسات فى أرضه ومع نباتاته وحيواناته وهى كثيرة وثمينة فى كل الأحوال.
وعموما فحرفة الزراعة كتاب لا تنتهى صفحاته على الإطلاق لسبب بسيط هو أن مدخلاتها لا تقتصر على مستلزمات الزراعة المعروفة بل إن ظروف المناخ وتقلباته ( كضوء الشمس والهواء والضغط والمطر والرياح ونسبة الرطوبة ودرجة الحرارة ) ضالعة فيها كعوامل لا يمكن حسابها بدقة أو التحكم المطلق فيها مهما كانت براعة توقعها فضلا عن طبيعة الأرض وقوامها ودرجة تماسكها ( خفيفة أو ثقيلة ) وكيماويتها ( حامضية أو محايدة أو قلوية ) ونوع وسلالة المحصول المنزرع إضافة إلى نوعية بعض مستلزمات الإنتاج المستخدمة وعلى الأخص المبيدات والأسمدة المختلفة وجودتها وتأثيراتها .. وهذه كلها تأخذ مكانها كعناصر لا تتجزأ من مدخلات الزراعة .. ولذلك تختلف الزراعة عن الصناعة فى هذا الجانب اختلافا جوهريا خصوصا من زاوية الخبرة.
وحينما يحين وقت الحصاد يجمع الفلاح حصيلة جهده .. التى قد لا تتناسب مع توقعاته فى بعض الأحيان لكنه فى كل الأحوال يشعر بأنه كدّ وتعب ويحصل الآن على ثمار هذا الجهد. لذا فما يتعلق بأرضه ونباتاته وما يجرى بينه وبين حيواناته علاقة لا يمكن فصمها بسهولة إلا إذا جُرّدَ من أرضه وفقد حيواناته. وساعتها يشعر ألا قيمة له بدونها .. فالأرض أساسا والحيوان هما من حققا وجوده – كيانه وشخصيته – وباختفائهما يختفى هذا الكائن ولا يستمر فى القرية.
ورغم عشقه البالغ لحرفته وشعوره ألا حرفة سواها بل ولا أهم منها .. لا يدرك أنه هو مَنْ أسسَ لحياة الآخرين بل وأبقاهم على قيدها .. هذا على مستوى الوطن ، أما على مستوى أوسع .. فقد علّم كثيرا من الشعوب حرفة الزراعة و كان له فضل نشرها فى كثير من أرجاء المعمورة بل وكان له فضل إطعام شعوب العالم القديم عندما ساءت أحوالهم فى الوقت الذى تراكم إنتاجه من الحبوب وصار موردا ومخزنا لذلك العالم المحيط.
لا يدرك فلاحنا ذلك لكن يدركه آخرون توفرت لهم فرص المعرفة والاطلاع والتأمل والتنقل من المفكرين والمؤرخين والمثقفين وبعض المهنيين.
من جانب آخر فليس كل من يملك أرضا يفعل ذلك إلا إذا كان فلاحا وتعمقت صلته بالفلاحة وامتلك كل هذه المهارات ؛ وعليه فالفلاح هو من يفلح الأرض بيديه وليس من يملكها لأن ملكية الأرض يمكن أن تتحقق بعشرات الوسائل لكنها لا توفر لمن يحصل عليها ما توفره للفلاح الذى نتحدث عنه من مهارات وقيم ووجدان وتكوين لا يستقيم ولا يتسق إلا (مع حرفة قوامها عناصر حية كالبذور والنباتات والحيوانات والطيور ووظيفة إنسانية جوهرها خلق مقومات الحياة للبشر). فالأرض كائن مهمته العطاء الدائم وقد عكست ذلك بقوة على أقرب أقاربها .. الفلاح.
لذلك وجب التفريق بينه وبين مالك للأرض لا يفلحها؛ وبمعنى آخر بين من يعمل فيها بيديه وبين من يقتصر دوره على تنظيم العمل الزراعى ، والتفريق بين من ينتج ويعول نفسه والمحيطين به وبين من ينتج للسوق والربح بل وبين من يُسَخر الآخرين فى الأرض ليسطو فى نهاية المطاف على كدهم لأنه لا وظيفة له سوى امتلاكها وهو طفيل يتغذى ويحيا على عرق من يقومون بإنتاج الخيرات وسد جوع الآخرين وحفظ حياتهم.
فالفلاح رغم أنه يزرع ويرعى – أرضه ومزروعاته وحيواناته – ويحصد نتاجها إلا أن ما يعود عليه منها يحتاج إلى قراءة متأنية ومراجعة.. للتيقن من انعكاس ذلك على حياته بما يناسب مهمته الجليلة التى يقوم بها وجهده الذى يبذله .. أم أن هناك فى الأمر أقوال أخرى..؟!
خلاصة القول :
أن القصة الأخيرة فى الزراعة كالقصة الأولى.. ليس أن تزرع وترعى وتحصد ؛ بقدْر ما هى .. بمن ستزرع وترعى..؟ ولمن ستحصد .. ؟!.