الطريق الثالث .. بين التزامات البناء الحقيقية.. ومراوحات النخب المصرية

طالعتنا وسائل الإعلام والصحافة الورقية والإلكترونية بكثير من التصريحات والأخبار والمداولات لبعض السياسيين والمرشحين لانتخابات رئاسة الجمهورية ضمت مقترحات تتعلق بالموقف من الجولة الثانية منها.

  • أحد هذه المقترحات يحث على الدعوة للتصويت لمرشح جماعة الإخوان المسلمين باشتراطات محددة عرضها ووافق عليها مرشح الرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح فى النقاط التالية :

1-    تشكيل جمعية تأسيسية برئاسة رمز وطنى  تتخذ قراراتها بـ 2/3 الأصوات.. يتم الإعلان عنها قبل جولة  الإعادة.

2-    مجلس رئاسى من 3 أعضاء ( الرئيس ونائبين) مع تحديد  صلاحيات النائبين من الآن.

3-    حكومة ائتلافية ترأسها شخصية مستقلة ووزراء السيادة بها من التكنوقراط وغير حزبيين.

4-     استقلال رئيس الجمهورية عن انتمائه الحزبى.

  • وبعض المقترحات الآخر يرى حل الأزمة الراهنة فى التوجه بعيدا عن( دعم أحد المرشحيْن أو بمعنى أدق إزاحة أحدهما من طريق الثورة ) أُطلِق عليه الطريق الثالث سواء جرى ذلك بإبطال الأصوات التى يتم الإدلاء بها أو بمقاطعة الانتخابات والاعتصام فى الميادين يومى الاقتراع .

لذا رأينا أن نعقب علي المقترحين بالذات مقترح االطريق الثالث الذى نرى أنه طرح مهم وجدير بالحوارحوله .

وفى البداية – وحتى نختصر المسافة – نحو الموضوع الرئيسى نسوق التقديرين التاليين مقدمة لحديثنا:

1-هناك فارق نوعى بين الاستجابة الفورية لبعض السياسيين و مرشحي الرئاسة الذين خرجوا من السباق لدعوة جماعة الإخوان المسلمين بشأن تحديد موقف مشترك فى الجولة الثانية من السباق وبين الامتناع عن تلبية الدعوة والاكتفاء بمداخلات إعلامية غير مباشرة.. فالاستجابة التى أولاها البعض للدعوة تعكس هرولة لا تخلو من مغزى يفصح عن ذيلية غير محمودة ورغبة فى البقاء فى المشهد الراهن بأى شكل.

2- فالحوار مع مرشح الإخوان أو حتى مرشح نظام العسكر ( الشيخ والجنرال ) هو رغبة فى الإبقاء على الحدود متداخلة والأوراق مختلطة بين كل الفرقاء عموما بين معسكرالثورة ومعسكر الثورة المضادة أيا كان الساعى للحوار ومهما كانت الهوية السياسية التى يخلعها على نفسه.

 فكل من المرشحيْن خصوصا مرشح الإخوان سوف يوافق فى الغالب الأعم على الشروط أو التعهدات المقترحة لتأييده فى الجولة الثانية من الانتخابات ليصل إلى المنصب وسيكون مستعدا لتعيين نواب  ورئيس وزراء ووزراء بل والذهاب إلى آخر مدى ( حتى التوقيع علي الشروط )؛ وبعد أن يحصل على المنصب  سيقول لمن فاوضوه: إن لكل حادث حديث .. ولكل وقت أذان.

-ولأن كل المتفاوضين الفعليين أو وسائطهم مع أىّ من المتسابقيْن على مقعد الرئاسة لا يستندون فى تفاوضهم إلى أحزاب جماهيرية وإنما فى أحسن الفروض يعتمدون على كتل تصويتية  فهم لا يملكون أدوات ضغط حقيقية على الشيخ أوالجنرال إذا ما تلاعب أو أخل بوعوده بعد حصوله على المنصب ؛ فالفرق  بين جمهور الأحزاب الجماهيرية بمناصريها وبين الكتل التصويتية كبير .. فالأحزاب الجماهيرية يقوم أعضاؤها والحلقة الأضيق من مناصريها بالتصويت بناء على تعليمات أو قناعة الحزب وقادته .. بينما الكتل التصويتية لا يمكن التحكم فيها لأنها فى واقع الأمر مجرد أفراد ..تشدهم حالة وقتية حماسية وليس رابطة حزبية دائمة ؛ فمن سبق له التصويت من تلك الكتل فى الجولة الأولى لمرشح يفضله أو يؤيده  ولم يحالفه التوفيق.. ليس من المؤكد أن يوافقه على التصويت لمرشح آخر ( غيره هو ) فى الجولة الثانية.

– كذلك فمن يحصل على المنصب – لو أوْفَى بتعهداته لمن تعهد بتعيينهم-  لن يلتزم ببقية أو بأغلب التعهدات التى تتعلق بالسياسة العامة التى سيتبعها ؛ بل وسيفرّغ كل تعهداته الأخرى من مضمونها .. وبمرور الوقت سيعمل على وضع كل العراقيل أمام هؤلاء المعينين لإزاحتهم إن شكلوا عبئا عليه ولن يُبقى عليهم فى مناصبهم إلا إذا تلوّنوا وانصاعوا لإرادته مستندا فى ذلك إلى الضغوط الجماهيرية التى يقوم بها حزبه .. (هذا فى حالة الشيخ ) ؛ أو معتمدا على الضغوط والسلطات المخولة للمجلس العسكرى أو التى تقوم بها أجهزة الدولة المناوئة والتى لم يتم تطهيرها ( فى حالة الجنرال ) ، ولن يستطيع المعينون الصمود والمقاومة لسبب بسيط هو عدم استنادهم إلى أحزاب جماهيرية قوية ؛ ولأن الكتل التصويتية التى ساندتهم فى الجولة الأولى للانتخابات لن تحميهم فى هذه الحالة – كما قد يتوقعون- خصوصا بعد أن يكون وضعهم قد اهتز بقبول المناصب وسمعتهم قد تلوثت بفعل الشائعات وعمليات التشويه المدروسة التى يطلقها الإعلام وتتولاها أجهزة الرئيس .

– كما لا يمكن التعويل على الالتزامات الشخصية أو الأدبية للرئيس فى تنفيذ مثل هذه التعهدات والوعود السياسية لأن الضمان المؤكد الوحيد هو الضمان الجماهيرى الذى يمثل الأداة الوحيدة للضغط إن تم الإخلال بالوعود ؛ وهو الضمان المفتقد لأنه يعتمد على كتل تصويتية وليس على شعب منظم هذا من ناحية.

 – ومن ناحية أخرى وعلى المستوى الشخصى فالشيخ  يقول الشئ ونقيضه فى ساعة واحدة وهو لا ينفرد بتلك النقيصة بل هى من مؤهلات الجماعة وتكاد تبلغ فى مكانتها حد كونها إحدى شروط العضوية ، وعلى المستوى الأدبى فالشيخ وجماعته لا يخجلون من تكرار هذا التناقض ( النقيصة ) فى ممارساتهم اليومية السياسية .. فكم من فضيحة تعرضوا لها لم تحرك لهم ساكنا وأقربها ( الإعلان الدستورى وما سبق وصاحب وتلا الاستفتاء عليه؛ والمادة 28 منه التى حصنت قرارات اللجان العليا للانتخابات من أى نقض أو مراجعة؛ والإصرار على الانفراد بتدبيج هيئة تأسيسية لكتابة الدستور ثم يأتى القضاء ويلغيها ؛ وقانون تجريم التظاهر؛ وعمليات السب العلنى للعديد من شباب الثورة ).

فهل يمكن الثقة في رئيس يمثل جماعة زئبقية منغلقة ودموية طوال تاريخها ويمتلئ عقلها بأحلام الخلافة الإسلامية المتوهَّمة..؟!

-أما الجنرال فهو على المستوى الشخصى ألعوبان معدوم الثقافة ، و على المستوى الأدبى .. لا يرى جماهير الشعب المصرى حتى لو نظر ناحيتها ؛ ولا يحترمها أو يعتد بوجودها ؛ علاوة على أن ما يشكل معاييره وقيمه السياسية هو دوره أمام مجلس العسكر و رئيسه السابق الموجود بالسجن؛ ولا نستبعد أن يتوهم نفسه منقذ المجلس العسكرى من ورطته؛ ومخلّص النظام ورئيسه من الثورة ؛ ومغيث مئات الآلاف من رجال الأعمال من انتفاضة جياع تبدو فى الأفق ، فما يفلت من فمه من عبارات تشير إلى أنه ينظر لنفسه كبطل وكأكفأ من أنجبت المؤسسة العسكرية المصرية من سياسيين ؛ و يلعب بالبيضة والحجر فيشارك صباحا فى الإعداد لمعركة الجمل وفى المساء يُطْرى الثورة ويتحدث عن الثوار وأمثال هذا الجنرال عادة لا يخاطبون سوى مثلهم العليا من النخب العالمية فى واشنطون وباريس ولندن ويتقمصون شخصياتهم ويتبنون أفكارهم .. فهل يمكن لرجل على هذه الشاكلة أن يفى بتعهد واحد مما يُوهم به عديدا من أفراد النخب عبر تصريحاته الإعلامية.. أم أنه بمجرد ارتقائه المنصب سنجد أنفسنا أمام نمر جريح مراوغ متعصب وباحث عن الثأر ؟!

الطريق الثالث :

هذا ويرى عدد من السياسيين أن الطريق الثالث الذى تم الإعلان عنه مؤخرا – وكما فهمنا – يتشكل على الأقل من الكتل التصويتية التى أيدت مرشحى الثورة الأربعة مضافا إليهم مجموعة البرادعى ومؤيدى أبو الفتوح الذى حاور مرشح الإخوان وأعلن عن مقترحات دعمه المشروطة.

– ولأن ذلك الاقتراح كفكرة مجردة لا غبار عليه.

– ولأن هذا المسمى يعنى أنه طريق مغاير لطريقين آخرين كما يعنى أنه توجه مختلف عن توجه نظام العسكرالحاكم وعن توجه تيارالإسلام السياسى؛ أى أن له منابعه وله مصبّه ؛ ولا يمكن بأى حال أن يكون طريقا موازيا لأى طريق آخر.. علاوة على أن الإعلان عنه لم يتم إلا بعد تبلور الاستقطابات فى معركة الرئاسة الانتخابية.. وهو – بناء على التصريحات التى انطلقت بشأنه – طريق قيْد الإنشاء ؛ فلا يمكن أن يتأسس إلا بتحديد ملامحه العامة ومن هم الذين سيشقونه ويتخذونه طريقا للكفاح .. وهل الدعوة له فى البداية ستكون عامة أم  تتطلب شروطا محددة ؟

– ولأن شق هذا الطريق يعنى تشكيل هيئات سياسية دائمة حيث يمكن تحويل أجزاء لا بأس بها من الكتل التصويتية المتقاربة المشارب إلى أنصار حقيقيين بتنظيمها وانخراطها فى النشاط السياسى ومن ثم تساهم فى شق هذا الطريق عبر المعارك المتتالية ،  إلا أن تصور تنفيذه العملى هو المحفوف بالمخاطر ، فضمه لمجموعات متنافرة وغير متسقة من سياسيي النخب المعروفة منذ عقود ومن ثم لأنصارهم ومنهم عناصر لاتزال تعلن عن هويتها المرتبطة بنهج الإسلام السياسى الذى يتخذ طريقا اتفقنا على أنه يختلف عن الطريق الثالث ؛ فقد أوحى ذلك بأن الأمر لا يتعلق بتأسيس هيئات سياسية دائمة بقدر ماهو التقاء عرضى بينها أقرب إلى التنسيق أو التحالفات  الانتخابية.. وهذا فى الحقيقة ما نراه بعيدا عن مسمى الطريق الثالث.

ولأننا يجب أن نتعلم من أخطائنا ومما جرى قبيل المعركة الانتخابية برفض الدعوات التى اقترحت الالتفاف حول مرشح واحد للثورة فى حالتين كان المرشح حمدين صباحى طرفا فيهما ..فإن السؤال التالى يطرح نفسه علينا بإلحاح: هل تجمّعُ هؤلاء تحت ضغط الأزمة سيساهم فعلا فى شق طريق جديد مغاير لطريق النظام وطريق الإسلام السياسى؟ وهل تلاشت الآن الدوافع التى أدت لافتراقهم فى البداية ؟

لا أجد لدى إجابة شافية عن السؤال غير” أنى لست مطمئنا للمقدمات التى دفعت أصحابها للإعلان عن مبادرة الطريق الثالث”.

فالطريق الثالث الذى أفهمه استنادا للملابسات التى أدت للإعلان عنه فى هذا التوقيت يُشيّدُ على أساس تبنى الجماهير والتفافها حول أفكار واضحة ومحددة :

  • حول دولة مدنية غير دينية ؛ دولة مواطنة ؛ لا تمييز فيها بين أفرادها.. وليس حول أفكار متباينة تجمع خليطا من طريقين استنادا إلى قوام من يتجمعون حول هذا الطرح.
  • وحول دولة ديمقراطية برلمانية.. لا تدار من وراء ستار بمؤسسة العسكر ( استنادا إلى تصريح يرى إمكانية الاستعانة برئيس مجلس العسكر) ، ولا يتحول فيها البرلمان إلى هيئة تنفيذية متعددة الامتيازات الخاصة، ولا يطْبِق على أنفاسها رئيس كلى الجبروت فائق الصلاحيات بونابرتى النزعة أو ميكيافيللى الفلسفة والأهداف والأخلاق.
  • وحول دولة تسودها قيم العدالة الاجتماعية الحقيقية والكرامة الإنسانية ..تكون اليد العليا فيها للشعب المنظم (غير المبعثر والمنفرط) ؛ ولا يرتبط مصير الشعب فيها بأفراد متعددى الأهداف والأهواء والمسارات.. بقدر ما تذوب فيه هذه النخب لتصبح متسقة معه وجزءا فاعلا من حركته.

ولأن الطريق الثالث الذى تتم المناداة به يتأسس على وهم الكتل التصويتية الخام دون فرز أى الكتل التى تذهب وتجئ .. والمعرضة للتآكل بفعل عوامل شتى منها :

–         الضغوط التى تمارسها القوى الداعمة لمن سيتولى منصب الرئيس .

–         ومنها التنافر السابق على بدء المعركة الانتخابية والفردية التى طبعت موقف المرشحين الذين رفضوا التوافق على واحد منهم .. ليس هذا فحسب بل إن التآكل سيلحق جانبا آخر منها

–         نتيجة تصويت بعضها لمرشح الإخوان بحكم انتماءات ذلك الجانب الأيديولوجية أو عدائه للعسكر فقط وليس لقوى الثورة المضادة جميعا .

–         وتصويت بعضها لمرشح العسكر بحكم عدائه للإسلام السياسى .

–         واعتكاف بعض ثالث فى منازله إحباطا وسأما.

إن الكتل التصويتية يمكن أن تدفع مرشحا إلى مقدمة الصفوف  لكنها لا تضمن دعمه فيما بعد إلا فى حالة من اثنتين :

الأولى : هو بقاؤه على مبادئه وعلى مصداقيته فى تنفيذ وعوده .

والثانية: هى كونها أعضاء فى حزبه السياسى .. وفى هذه الحالة تسمى  كتلة حزبية مناصرة أكثر منها كتلة تصويتية.

كذلك فالكتل التصويتية يمكن أن تشكل مدخلا هاما لدعم دائم لمرشح أو لتيار سياسى بعينه فى حالة التقاطها وهى ساخنة والعمل على تنظيمها بعد فرزها وتوثيق صلتها بالنشاط السياسى.. أما إن تم التعامل معها باعتبارها كتلا تصويتية فحسب فسوف تبرد وتذوب ولا يمكن التعويل عليها  فى دعم من سبق وصوتت لصالحه بنفس الأعداد.

لذلك فالطريق الثالث الحقيقى لا يبنى إلا بواسطة مجموعة متفقة أو متقاربة المشارب سياسيا منتمية شكلا وموضوعا لنفس الطريق يزيد ما يجمعها على ما يفرقها ؛ علاوة على أنها لا تبنى إلا على الأرض وفى كل أرجاء مصر وليس فى المدن الكبرى للثورة أو فى العاصمة وحدها.

لأنه كما قيل قديما .. “عندما يسير جمع من الناس فى اتجاه واحد يتشكل الطريق” .

الخميس 31 مايو 2012                                                             بشير صقر