المخاطر المحدقة بالثورة المصرية
تمهيد:
تتصاعد الأزمة الثورية فى مصر بمعدلات متسارعة.. لتصل إلى حدود لم تبلغها منذ انتفاضة يناير 2011.
ورغم أنها تنحصر بين معسكرين (للثورة والثورة المضادة) إلا أن أطرافها ثلاثة هى مجلس قيادة الجيش والشعب وفصائل الإسلام السياسى.
هذا ويتباين إدراك أطرافها الثلاثة لها استنادا إلى تثمين كل طرف منها لحجم قوته وقدرته على الحركة من ناحية.. وإلى الكيفية التى يتصورها لإدارة الأزمة من ناحية أخرى .. سواء بوقف تصاعدها أو بتسريع وتيرتها.
-ولأن الأزمة الراهنة تتجلى على مستويين:
الأول بين طرفين داخل معسكر الثورة المضادة (قيادة العسكر وفصائل الإسلام السياسى) حيث يتنافس كل منهما على نصيبه فى الغنائم بعد إسقاط رأس النظام الحاكم وعدد من رموزه.. فبينما يرى العسكر أحقيتهم بنصيب الأسد منها باعتبارهم جزء عضوى من النظام الحاكم .. تسعى فصائل الإسلام السياسى لمزاحمتهم فى السلطة والغنائم وعدم الاكتفاء بدور الشريك الأصغر.. ورغم كونهما معا معاديين للشعب وثورته.. فقد تحول هذا التنافس (داخل نفس المعسكر) إلى تناحر.. يبدو محكوما.. لكن القطع بذلك ليس شيئا مطلقا.. أو مؤكدا.
أما المستوى الثانى.. فبين الشعب من جهة وبين قيادة الجيش وفصائل الإسلام السياسى من جهة أخرى.. أى بين معسكر الثورة ومعسكر الثورة المضادة.
-وتختلف مواطن القوة المباشرة والعميقة لكل طرف من الأطراف استنادا إلى أدواته التى يدير بها الأزمة وإلى خبراته وإلى مدى مشروعية أهدافه ومصالحه.
-فالجيش كممثل للنظام القديم أو كوريث له – كما تفصح عن ذلك جملة ممارساته- يملك أسلحته وعتاده وتنظيمه المحكم وسيطرته على ما يتجاوز ثلث الاقتصاد القومى.. من مجمل ما يديره من وحدات اقتصادية إنتاجية وخدمية تضاف إليها ميزانية هائلة.. وهى عناصر قوته، بينما تتركز نقاط ضعفه فى كونه ممثل النظام “القديم” الذى فقد مبرر وجوده فى الحكم علاوة على افتضاح أمره فى صفوف الشعب من خلال مواقفه وممارساته المعادية للثورة ولجماهيرها.
-أما فصائل الإسلام السياسى فتتركز مواطن قوتها فى تنظيماتها الجماهيرية.. بل والعسكرية (المختفية تحت السطح) وتغلغلها فى الريف والأقاليم وعشوائيات المدن، لكن ما يضعفها هو الرفض الشعبى المتصاعد فى المدن الكبرى وبعض قطاعات السكان فى المدن الأقليمية بسبب اكتشاف الجماهير لأهدافها ومراميها الرجعية وعدم مصداقيتها ومطامعها فى الهيمنة على المجتمع والدولة ومواقفها المعادية للثورة وأهدافها.
-أما الشعب- الطرف الثالث- فتتمثل قوته فى الإنجازات التى حققها طيلة شهور الثورة؛ من كسر لجدار الخوف وإدراك لإمكانية الحصول على حقوقه المغتصبة وحرياته المصادرة، واكتشاف دور وأهداف كل من مجلس قيادة العسكر وفصائل الاسلام السياسى.. المعاديين للثورة علاوة على تعداده المتجاوز ثمانين مليون نسمة، والأهم كون حقوقه وحرياته وسعيه نحوهما تلقى تعاطفا واسعا على النطاق العربى والدولى. بينما نقاط ضعفه فتكمن فى تبعثره وانفراطه وافتقاده لتنظيم يوحّد أفكاره ومطالبه وإرادته وكيفية إدارته للأزمة.. علاوة على تدنى وعيه خصوصا فى القطاعات الريفية.. وعدم مشاركتها فى الثورة ومن ثم عدم تثمينها لحقيقة الأطماع التى تحكم حركة العسكر وفصائل الاسلام السياسى التى تمسك بآذانها منذ عقود.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى افتقاده لقيادات محلية واعية وقيادة مركزية ذات خبرة، ومن ناحية ناحية ثالثة فالنخب السياسية التى تتحدث باسم الشعب منذ سنوات طويلة شديدة الهشاشة.. ولم تتمكن- برغم اندلاع الثورة- من بلورة تلك القيادة طيلة الخمسة عشرا شهرا المنقضية ، وقد تجلى ذلك بأوضح شكل إبان انتفاضة يناير 2011 حيث اختفى مفجروها وتبعثروا تاركين ميدانها لقوى الإسلام السياسى لتستولى على إنجازتهم العظيمة.. بل وأزاحتهم إلى الخلف.
ولما كانت الأزمة الراهنة يمكن أن تدفع بعض أطرافها لارتكاب تصرفات رعناء أو حماقات منفلتة أوانكسارات مرضية بسبب خطأ حساباتها أو ضيق أفقها أو تبدد أحلامها أو جنون قوتها أوعظمتها.. فى غضون الأسابيع القليلة القادمة إثر ظهور نتيجة الجولة الحاسمة لانتخابات الرئاسة أو بعد عدة شهور؛ يصبح لزاما علينا أن نتطرق لعدد من الملابسات والأخطاء والأفكار التى واكبت أحداث الانتفاضة منذ يومها الأول وحتى اليوم .. لتكون خلفية لما يدور الآن أو سيحدث فى المستقبل فى مركز الثورة ( المدن الكبرى )؛ وهو ما نراه واجبا يتطلب الصراحة فى طرحه والاستقامة فى عرضه.
عودة للثورة والثوار والخبرة السياسية:
-علاوة على انعدام الخبرة السياسية والتنظيمية والحركية لهؤلاء الثوار ظل استخدام ميدان التحرير من جانب من تبقى منهم.. كأداة ثابتة ودائمة لا تتغير فى مواجهة قوات النظام الحاكم وفلوله ومرتزقته وكانت مقاومتهم أقرب لسلوك الانتحاريين العزل منه لمناضلين سياسيين يديرون ثورة قوامها شعب مبعثر متدنى الوعى محروم من ممارسة العمل السياسى طيلة 60 عاما متصلة.
-هذا ورغم استخدام عدد من المراقبين لعبارة حرب الشوارع فى توصيف مقاومتهم الشرسة والعنيدة وإصرارهم على عدم مبارحة الميدان فإن ذلك التشبيه لم يأخذ من العبارة سوى اسمها ( الشوارع ).. فقد كانت قوات الشرطة العسكرية والمدنية وسرايا مكافحة الإرهاب هى التى تُغِير عليهم وتهاجم خيامهم فى قلب الميدان فى الوقت وبالطريقة ومن المكان(المدخل) الذى تحدده وتلحق بهم الخسائر تلو الأخرى .. دون أن يتبادر إلى ذهنهم حتمية تغيير ذلك التاكتيك الضار؛ بينما المفترض بين شعب أعزل ونظام مسلح أن يوجه الشعب ضرباته فى المكان والتوقيت وبالطريقة التى يحددها هو.
وقد انتهى ذلك الوضع بانسحابهم من الميدان- يأساً من إمكانية إحراز تقدم حقيقى على قوات تفوقهم عددا ًوعدّة – ولو كان انسحابهم مبنيا على تغيير فى الأسلوب الذى اتبعوه فى المواجهة وليس يأسا من الانتصار لاختلف الأمر كثيرا..
ترك زمام الثورة والاستغراق فى أسلوب وحيد:
-هذا ولقد كان ترك قادة انتفاضة يناير 2011 زمام الثورة- لتستولى عليه فصائل الإسلام السياسى التى استنكفت عن المشاركة حتى يوم 28 يناير- يشكل الخطأ الذى أدى لمزيد من الأخطاء وحتى وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن.. وهو ما يُطلق عليه انخفاض الوعى السياسى والتنظيمى؛ كذلك فترك زمام الثورة لآخرين ليس تركا جغرافيا- يخص ميدان التحرير- لكنه يعنى الافتقار لمعرفة بديهية سياسية مفادها ” أن الإطاحة بزعيم اللصوص لا تعنى أن بقيتهم سيعيدون لك ما سرقوه منك طواعية .. بل يعنى ضرورة العمل على إزاحة بقية العصابة بنفس الأسلوب أو بأساليب أخرى حسب مقتضى الحال” .
فمغتصبو حقوق الشعب لن يفرطوا فيها إلا إذا أُجْبِروا على ذلك وسيستميتون فى التمسك بها حتى آخر رمق.
-ومن ناحية أخرى أصر جزء آخر من هؤلاء المقاتلين على التمسك بالبقاء فى الميدان-رغم تعرضه لغارات قوات النظام ولعمليات الاختطاف والاعتقال- وقد شكل هذا العناد نوعا آخر من تدنى الخبرة السياسية والتاكتيكية فى المقاومة، وكلاهما -تَرْك زمام الثورة لآخرين.. والتمسك بالبقاء فى الميدان- وجهان لعملة واحدة.. هى الافتقار للوعى السياسى ولتحديد المهمة الواجب إنجازها..
– ومن جانب آخر ظل الصراع بين هؤلاء الأسُود- الذين فجروا الثورة واستٌشهد كثير منهم فداء لها- وبين النظام الحاكم مستغرقا فى نمط واحد فى ميادين أخرى وكان ذلك أشبه بمحاولة إخطار شعوب العالم بأن الشعب المصرى يرفض حكامه..أكثر منها.. العمل على إجبارهم على التسليم بمطالبه.
وظل حصار الثورة فى تلك الميادين.. والمدن الكبرى التى اندلعت فيها ( القاهرة- السويس- الاسكندرية) مستمرا.. بينما قطاعات واسعة من جمهور المدن منشغل عنها.. وقطاعات أوسع من جماهير الريف والأقاليم لا تفعل أكثر من مشاهدتها على الفضائيات كما لو أنها تجرى فى دولة أخرى.
سلمية.. سلمية بين أوهام الشباب ووحشية النظام وبراجماتية الفلاحين:
-كما أن شعار” سلمية .. سلمية ” الذى رفعه الثوار قد أوضح الفارق الشاسع بين مفاهيم وأوهام شباب يشارك لأول مرة فى انتفاضة جماهيرية دامية وبين وحشية وواقعية نظام فقد شرعيته واعتاد على الاستبداد دفاعا عن هويته ووجوده.
-وحتى لا نبدو وكأننا نطالب أسود الثورة هؤلاء بما ليس فى طاقتهم.. نذكر بأن ما دفعهم للتواجد فى ميدان التحرير ظهر يوم 25 يناير 2011 كان رغبة فى الاحتجاج على سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليس أكثر.. لكن ولأن حركتهم لاقت صدى هائلا فى صفوف الشعب.. فقد هرع المئات ثم الآلاف ثم عشرات فمئات اآلاف إليهم دعما ورغبة فى المشاركة، وهو ما فاجأهم.. ودفعهم لتغيير خططهم.. وباتوا فى قلب انتفاضة حركت قلوب الملايين.
-ومن ناحية مغايرة تماما.. وفى صباح 28 يناير2011 قام مائتان من أهالى منطقة طوسون بشرق الاسكندرية التى هدمت المحافظة منازلهم على رؤوسهم فى مايو 2008 وأزاحتهم بعيدا عن المنطقة لأكثر من سنتين.. قاموا بالتوجه إلى حيث كانوا يسكنون وطردوا ثلاثة وستين فردا ( من شركة أمن ) كانوا يحرسونها وشرعوا فى بناء منازلهم وأقاموا فيها فى بحر ثلاثة أسابيع وكان سندهم فى ذلك إصرارهم وعزيمتهم فضلا عن حصولهم على حكم قضائى رفضت الدولة تنفيذه.
-وبعد أربعة أيام (31 يناير2011) قام بعض فلاحى 6 قرى من مركز طلخا بمحافظة الدقهلية- يقودهم عدد من أبناء مقاتلين شاركوا فى حرب اليمن عام 1962- قاموا باسترداد مساحات واسعة من أراضيهم كان أحد الإقطاعيين (مالكها السابق) قد اغتصبها منهم قبل عشر سنوات، ورغم حصولهم على أحكام قضائية بحقهم فى استعادتها ورغم أن الدولة وزعتها عليهم بنظام التمليك منذ عام 1966 وظلوا يزرعونها أكثر من ثلاثين عاما متصلة.
-وإذا كان أهالى طوسون وفلاحو طلخا قد استندوا فى استعادة حقوقهم على أحكام قضائية رفضت الدولة تنفيذها فإن عددا كبيرا من فلاحى مركز دمنهور بالبحيرة قد استردوا أراضيهم – التى اغتصبت منهم بدعم الدولة وتحت إشرافها- بدءا من 14 فبراير 2011 دون أحكام قضائية.. والأهم أن أحد خصومهم المباشرين كان رئيس مباحث أمن الدولة بالمحافظة.
ثورة المدن والفلاحون:
– والأمثلة الثلاثة التى عرضناها تشير إلى قضية غاية فى الأهمية تتعلق بضرورة تغطية الثورة لجميع قطاعات المجتمع من عمال وفلاحين ومهنيين وحرفيين ومهمشين.. ولعلنا نتذكر أن جموعا غفيرة من العمال فى القاهرة ومحيطها هى التى حسمت مشاركتها فى انتفاضة يناير 2011 مهمة إسقاط الطاغية بعد أيام معدودة من هذه المشاركة.
وتشير من جانب آخر إلى أن ما ساند مواقف قوى الثورة المضادة فى الاستمرار والمماطلة والمراوغة أن الانتفاضة تركزت بالأساس فى عدد من المدن الكبرى أبرزها القاهرة والسويس والاسكندرية، وأن عدم امتدادها إلى الأقاليم والريف كان أبرز نقاط ضعفها إضافة لما ذكرناه من أسباب قبل ذلك.
-ولقد ارتفعت بعض الأصوات فى إثر إسقاط الطاغية تنادى بضرورة مدّ النشاط الثورى نحو محيط الدائرة التى احتلت انتفاضة المدن الكبرى مركزها.. لكنها ولأسباب متنوعة ضاعت وسط الضجيج.
-ولو افترضنا غياب فصائل الإسلام السياسى عن المشهد أو عدم وجودها أصلا.. فإن تأثير الانتفاضة على الريف فى هذه الحالة كان سيختلف.. لأن الدعاية التى تبثها تلك الفصائل فى الريف والأقاليم وانخفاض الوعى السياسى للفلاحين كانا عاملين معوقين بشدة فى منع الثورة من الوصول للريف الذى لا ينفرد بهذه السمة .. فهى منتشرة فى كثير من دول العالم.
-من هنا كان توسيع نطاق الانتفاضة وتعميقها شرطا حاسما لنجاحها وبلوغ أهدافها.. ولا يمكن أن يتم ذلك دون قيام العديد من الثوار وممثليهم ومن القوى الثورية السياسية الناشطة فعلا بالعمل فى مناطق واسعة من ريف الدلتا والصعيد؛ (أى الاتجاه أفقيا ).. وبث الوعى ونشر خبرات الانتفاضة فى صفوف السكان والفلاحين وغيرهم (الاتجاه رأسيا) .. وهذا هو الضمان الحقيقى لعدم خنقها وحصرها فى المركز وهو أيضا صمام الأمان فى تحقيق أهدافها، وبدونه ستنحسر الثورة.. ويصبح القضاء عليها احتمالا واردا.
أزمة الثورة وانتخابات الرئاسة:
-ولأن جانبا كبيرا مما حدث فى أعقاب الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة تابعته مجموعة من النخب من القوى السياسية المنعزلة و مرشحى الرئاسة ولأنه لم يكن مقتصرا هذه المرة على جمهور المدن الكبرى ووصلت أصداؤه إلى عدد من عواصم المحافظات إلا أنه كان مستغرقا فى حركة على السطح ولم يجر توسيع رقعته وتأثيره نحو الريف.
وعموما فمثل هذه الأحداث الهامة تعتبر فرصة ثمينة لتعديل بعض المفاهيم السياسية البديهية المتصلة مباشرة بمصالح جمهورالريف ومنها على سبيل المثال صلة الأفكار الاقتصادية لتيار الإسلام السياسى بمبدأ وقانون الاصلاح الزراعى وعما يعلنه من تعارضه مع الإسلام.. وهو ما دعاها عام 1952 للمطالبة برفع الحد الأقصى لملكية الفرد من 200 فدان إلى 500 فدان؛ ليس هذا فحسب بل وتوزيع الأرض المصادرة من الإقطاع على الفلاحين الأثرياء بدلا من المعدمين.. فضلا عن موقف آخر لهذا التيار مؤيد للحزب الوطنى فى قانون الايجارات الزراعية 96/ 1992 الذى ألقى بمئات الآلاف من المستأجرين خارج أراضيهم المستأجرة.. وهو ما أفضى إلى تشريدهم وهجرتهم من قراهم وهكذا..
-ومثل هذا النشاط يتطلب حركة فعالة وبأعداد كافية من النشطاء ليؤتى ثماره وإلا فإن قوى الثورة المضادة (مجلس العسكر، والحزب الوطنى، وفصائل الاسلام السياسى) ستتمكن من وقفه و محاصرة الثورة والقضاء عليها بعد ذلك.
-إن اتساع معسكر الثورة بضم قطاعات من السكان فى الريف والأقاليم.. سيدفع مجلس العسكر وفصائل الإسلام السياسى وأعضاء الحزب الوطنى إلى التقارب؛ وسيمثل خطر الثورة عليهم دافعا قويا لتلاحمهم برغم كل العداء المتبادل بينهم الآن؛ فعداؤهم الراهن ناجم عن تنافسهم على الغنائم وتقسيم الكعكة وضعف العدو ( الشعب) .. فإن تقلصت تلك الغنائم أو بدا فى الأفق إمكانية اختفائها.. بفعل النهوض الثورى للفقراء والمضطهدين ومشاركتهم فى مسار الثورة.. فسيتحول هؤلاء المتنافسون إلى جيش واحد ضد الثورة.
-إن التنافس بين قوى الثورة المضادة ليس نتيجة الغيرة.. أو بسبب عنجهية وتكبٌّر إحداها على الأخرى؛ بل هو تنافس على عرق الكادحين وناتج عملهم وكدهم.. ومن هنا سينقلب ذلك التنافس بينها إلى اتحاد وتلاحم للحيلولة دون هروب هذا العرق وذلك الناتج من بين أصابعهم .
-ولذلك فتوسع جبهة الثورة وفتح جبهات جديدة على قوى الثورة المضادة بضم الريف والأقاليم إلى المدن الكبرى من شأنه أن يشتت تلك القوى ويضعفها.. ويتيح الفرصة لتحقيق انتصارات ولو صغيرة عليها.. تكبر شيئا فشيئا مما يؤدى إلى إنهاك تلك القوى وكسرها.
-ومن زاوية أخرى فإن تلك الانتصارات الصغيرة التى تتزايد ستدرّب قوى الثورة فى الريف والأقاليم والمدن الكبرى على الصدام.. وتشحذ نصلها.. وترفع معنوياتها.. وهو ما يدفع قطاعات شعبية جديدة للانخراط فى الثورة.. ومن ثم يختل ميزان القوى فى المجتمع لصالح الشعب.. وفى المقابل تتداعى فصائل الثورة المضادة حتى تخور قواها وتتوقف عن المواجهة أوتعلن للاستسلام أو تلجأ للهروب من المعركة.
المخاطر المحدقة بالثورة:
-إن الثورة لا تسير فى خط مستقيم ؛ ولا تخضع لتوقعات تتم هندستها.. ولا لمجرد معطيات ظاهرة ؛ بل كثيرا ما تباغت أفرادَ معسكرها عواملُ غير منظورة أو بعيدة الاحتمال ؛ تقلب حساباتهم رأسا على عقب؛ ولذلك عندما ألقت محكمة جنايات القاهرة فى الثانى من يونيو 2012 بقنبلة الأحكام القضائية (على الطاغية السابق ووزير داخليته وزعيم سماسرته وأبنائه وقادة أجهزة الشرطة )..أعادت وهج الثورة إلى حالة أقرب ما تكون لأيامها الأولى ،وأحالت حالة الغضب والإحباط من نتائج انتخابات الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة – التى تصدّرها مرشحُ جماعة الإخوان المسلمين ومرشحُ العسكر- إلى انفجار جماهيرى جديد .. حبس أنفاسَ مجلس العسكر وبقايا الحزب الوطنى ليضع الشعب على عتبة استئناف ثورته من جديد.. لكن من مستوى أعلى.
-باختصار قلّبت أحكامُ قتل المتظاهرين والتربح من المناصب وتصدير الغاز لإسرائيل كلَّ المواجع على فئات الشعب المطحون المغدور به؛ وأيقظت النار من تحت الرماد ، وأّلهبت جولةَ الانتخابات الرئاسية الحاسمة.. ورفعت الاستقطاب الجماهيرى السياسى إلى درجات أكثر تحددا وأشد وضوحا.
-كما خلقت حالة من النشاط والتفاعل غير عادية.. اختلط فيها الإصرار على استمرار الثورة ؛ بالحنق على العسكر؛ بالاشمئزاز من المتأسلمين وبالذات جماعة الإخوان؛ بالرغبة فى تعريتهم وتقريعهم ؛ بتوافد النخب وبعض مرشحى الرئاسة إلى ميدان التحرير؛ بنوع من الفوضى الذى لا تستبين له معالم كثيرة.
-كان الإجماع على رفض تلك الأحكام والذهول من تناقضاتها وامتلائها بالثقوب مرافقا لضرورة تحديد موقف دقيق من الجولة الحاسمة لانتخابات الرئاسة.
-ولما كان الخيار المر بين اثنين من مرشحى الثورة المضادة ليكون رئيسا للدولة على الأبواب؛ وبدا وكأنه لا مفر منه؛ فقد انقسم جمهور الثورة تلقائيا بين راغب فى المقاطعة وآخر مفضلٍ لاسقاط مرشح الإخوان وثالث محبذٍ للتخلص من مرشح العسكر.
-هذا ولم يطرح أحدٌ ضرورة العمل على وقف الانتخابات ومنع إتمامها .
– وبينما كان مرشح الثورة الذى حصل على المركز الثالث فى الجولة الأولى قد رفض الانحياز لأحد المرشحين فور ظهور النتيجة واقترح مع آخرين تأسيس ما يسمَّى بالطريق الثالث .. وفى نفس الوقت يُعوّل من بعيد على صدور حكم القضاء باعتبار قانون العزل السياسى دستوريا .. ليتم بموجبه استبعاد مرشح العسكر ليحل محله فى السباق الأخير.. إذا بالمرشح صاحب الترتيب الرابع ( المستبعد فى وقت سابق من الجماعة ) قد أعلن تأييده لمرشحها وسعى بحماس واضح للحوار معه بِشأن ضمانات تقدمها الجماعة لمرشحى الثورة وللقوى السياسية والثوار للحصول على دعمهم لمرشحها ضد مرشح العسكر باعتبار الجماعة – من وجهة نظره – إحدى فصائل الثورة.
-هذا وقد اشترط بعض من النخب ضمانات محددة وُضِعت تحت اسم وثيقة العهد جرى الحوار بشأنها فى دوائر شتى متعددة ومتنوعة وانتهى بقبول البعض لها وبرفض الجماعة.. علاوة على اقتراح ” بمجلس رئاسى مدنى” بديل عن الرئيس.. وفى نفس الوقت تسربت أخبار غير رسمية عن رفض العسكر له وعن إبلاغهم ذلك لبعض الهيئات السياسية. وخلال يومين ( 3 ، 4 يونيو ) تمخضت المناقشات فى ميدان التحرير عن الإعداد لحشد مليونى فى يوم الثلاثاء 5 يونيو أطلق عليه مليونية العدالة يتم فيه التأكيد على رفض الأحكام القضائية المشار إليها ، وتشكيل مجلس رئاسى مدنى يقود الثورة.
محاولة العودة للميدان على وقع خطى الأزمة:
وكانت جماعة الإخوان قد وجدت فى ذلك الاحتجاج الجماهيرى الواسع على نتائج الانتخابات الرئاسية – والذى أشعلته الأحكام القضائية سالفة الذكر – وجدته فرصة لتقليص عزلتها الشعبية وقطيعتها الطويلة مع جماهير الثورة.. فإذا بقطات واسعة من الميدان يرفضها ويرفع شعاراته فى وجه مرشحها الذى لم يستطع البقاء فى الميدان سوى دقائق.
ملامح الأزمة:
وبقراءة سريعة للأحداث خلال هذه الفترة على ضوء ما عرضناه من ملاحظات عن ملابسات وأخطاء وأفكار واكبت الانتفاضة ؛ وتصور لتوسيع جبهة الثورة وتعميقها فى الريف والأقاليم وفى صفوف مهمشى المدن..تبدو لنا الصورة مقلقة حافلة بالمخاطر برغم البعث الذى أعاد الثورة لنا فى ثوب جديد:
1- فلا زالت المدن الكبرى مركز الثورة دون مدد أو دعم حقيقى من محيطها ؛ بل ودون السعى لمنطق جديد وأساليب وأدوات جديدة تعالج الأخطاء السابقة والأفكار الساذجة وتوثق الصلة بين الميادين والمواقع وتوحد اتجاه الشعارات والأدوات المستخدمة ؛ وهو ما يجدد الخوف على مصيرها فى ظل الاستقطابات الحادة التى تجلت مؤخرا.. فليس المطلوب أن تبقى نابضة فقط .. بل عليها أن تتقدم واثقة الخطى نحوأهدافها .
2- كذلك فالحركة تقتصر على النخب التى لم تدعم أغلبيتُها الثورة إلا بالمشاهدة قبل ذلك وتمثل هذا فى نقاشاتٍ جانبُها الأكبر مع جماعة الإخوان لم تسفر عن نتائج حقيقية ؛ بل أكدت الفكرةَ المعروفة عن دورها فى استخدام مثل هذه المفاوضات لصالحها ، بينما الجمهور مستغرقٌ فى حيرته منتظر للنتائج ويرفع شعارات ربما لاتفيد مثل ” معتصمون حتى تسليم السلطة لمجلس رئاسى مدنى” ؛ فهناك جولة انتخابات قادمة على الأبواب شاركت فيها الجماهير ولم تكتمل بعد .. ومن المنطقى أن يصر العسكر ومرشحهم على إتمامها وكذا مرشح الإخوان بعد رفض جماعته فكرة المجلس الرئاسى المدنى.
3- ويبدو أن الحوار الذى تم إجراؤه مع مرشح الإخوان ولم يجر مثيلُه مع مرشح العسكر؛ قد أكد تخوفنا من الانطباع الذى قد تأخذه الجماهير عن اقتراب مرشح الثورة من مرشح الجماعة. وعموما فلقد أعفانا مرشح العسكر من مغبة البرهنة على عبثية الحوار مع كليهما؛ عندما أعلن موافقته المبدئية على” وثيقة العهد ” ؛ وهو ما يدل على أن الموافقة والرفض يستويان عنده؛ بل إن موافقته الشكلية عليها ورفض جماعة الإخوان لها ستصب فى صالحه أمام الجماهير ولن تمنعه كذلك من التنصل منها فيما بعد.
4- الركون إلى والقبول بعناصر لا يمكن القطع بمناصرتها لجموع الفقراء من العمال والفلاحين ومهمشى المدن، بل إن انتماءاتها سياسيا وفكريا وارتباطها وجدانيا بجماعة الإخوان المسلمين معروفة حتى ولو لم تكن منخرطة بها تنظيميا.
5- خلط الأوراق بين ممثلى الثورة وممثلى الثورة المضادة من الإخوان وما ألقاه ذلك من ظلال على فهم الجماهير فى اعتبارهما شيئا واحدا، فضلا عما أضفاه الاستغراق فى الحوار أمام الرأى العام مع مرشح الجماعة ووسيط إخوانى الهوى لدى بسطاء الناس عن تقارب ما أو صلة بين مرشح الإخوان ومرشح الثورة ليست موجودة بين الأخير ومرشح العسكر ؛ وهو ما يوحى بعدم الممانعة فى التصويت لمرشح الجماعة مما يسئ لمرشح الثورة بشدة ؛ خصوصا وأن ممارسات وتصريحات أعضاء الجماعة فى الأقاليم لا تمل من الحيث عن ترشح بعض أعضاء الحزب الذى ينتمى له مرشح الثورة فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة على قوائم جماعة الإخوان.. وهو ما يتم ترويجه فى الريف لا لشئ إلا لدعم مرشحهم وذلك بطمس التمايزات بينه وبين مرشح الثورة.
6- إن كل ممثلى القوى السياسية ومرشحى الرئاسة المتواجدين فى الميادين لا ينتمون لأحزاب جماهيرية .. ومن ثم فالتعامل مع جماهير الكتل التصويتية – مع تأييدنا له – يتضمن إمكانية تبديد الجهود المبذولة معها بعيدا عن بناء قوة ملموسة على الأرض داعمة للثورة وأهدافها.
7- غياب سيناريوهات محددة لمواجهة تطور الأوضاع السياسية فى حالة نجاح مرشح الإخوان وعدم تمكن العسكر من ترجيح كفة مرشحهم ؛ واضطرار الجيش لمواجهة هذه النتائج بطريقته ، وتحديد الاحتمالات المتنوعة لمسلك العسكر فى تلك الحالة : بمعنى هل سيلجأ العسكر لانقلاب عسكرى صريح ؟ أم سيجبر تيار الإسلام السياسى على القبول بصيغة يفرضها كالعادة ؟ أم سينتظر ثم يقرر..؟ .
إن الالتزام الذى يجب أن يتبناه معسكر الثورة فى الوضع الراهن والاستقطابات التى استجدّت تضع أمامنا عددا من المهمات السياسية والتنظيمية والجماهيرية نوجزها في الآتى:
أولا : تحديد معسكر الثورة بدقة لا تقبل اللبس؛ وحماية مركز الثورة فى المدن الكبرى أفقيا بتوسيع جبهتها فى الريف والأقاليم وفى صفوف مهمشى المدن ؛ ورأسيا باستحداث أدوات وآليات تساهم فى تعميق الوعى بحريات وحقوق واحتياجات الجماهير وبمتطلبات وأهداف الثورة.
ثانيا :عدم اقتصار الحركة التى توجه معسكر الثورة على النخب؛ وألا تقنع بأن تظل حركة على السطح ؛ وأن تتشكل من عناصر موثوق فى ولائها وانتمائها لمعسكرها فكريا وسياسيا ، وتتجنب خلط الأوراق مع معسكر الثورة المضادة حتى فى أبسط الإجراءات والتصريحات.
ثالثا :الشروع فى بناء أشكال تنظيمية قاعدية فى مواقع الإنتاج والنشاط سياسية ونقابية واجتماعية من عناصر كفؤة ومختبرة ؛ وتوثيق الصلة بينها على النطاق القومى وتوحيد اتجاه شعاراتها وأدواتها.
رابعا :بدء حوار عاجل داخل ميادين الثورة وبينها وفى مواقع الإنتاج والنشاط للوصول إلى تصور عملى فيما يتصل بالموقف من الجولة القادمة للانتخابات الرئاسية ، ونتيجتها المحتملة والموقف منه حتى لا تفاجئنا بما لا نتوقعه أو بما لم نستعد له.
الثلاثاء 5 يونيو 2012
نشرت بتاريخ 6 يونيو 2012 على موقع الحوار المتمدن – العدد 3750