مقدمة لا بد منها:
يهمنا أن نؤكد فى البداية على أن الإلمام بالجوانب الفنية فى قضايا الزراعة جنبا إلى جنب مع الجوانب السياسية والاستراتيجية يمثل شرطا ضروريا بدونه لن نتمكن من القراءة النقدية لأى تصور أو تقدير يتناول حل الفجوة الغذائية .. والنهوض بالزراعة المصرية.حيث يسود فى أوساط كثرة من السياسيين المصريين خطأ شائع – خصوصا بين الناشطين فى أوساط الفلاحين- مفاده أن القدرة على فهم الجوانب السياسية والاستراتيجية فى أمور الزراعة كفيل بتسهيل العمل فى أوساط الفلاحين بصرف النظر عن الإلمام بالجوانب الفنية ، وهو ما يحد من قدرتهم *على تفنيد كثير من السياسات والخطط الحكومية التى دفعت الزراعة المصرية إلى المأزق الذى تعيشه الآن *أوعلى طرح البدائل العملية المناسبة التى تسمح بإحداث تغييرات فعلية فى حياة الفلاحين. لقد أثارت محاضرة الدكتور عبد السلام جمعة عددا من القضايا السياسية والفنية شديدة الأهمية التى يمكن بتفكيكها وإعادة تركيبها أو صياغتها .. أن توضع فى سياق آخر مختلف يساهم فى دفع بالزراعة المصرية إلى الأمام.
ولكى يكون تعقيبنا واضحا نعرض:
1- ملخصا لأهم ما تضمنته المحاضرة عن الفجوة القمحية فى مصر.
2- ونتطرق إلى تفنيد بعض ما جاء بها.
3- ونخلص إلى الاتجاه العام الذى نرى أنه يضعنا على عتبة نهوض فلاحى يأخذ بيد الزراعة المصرية نحو التقدم.
أولا.. ملخص لأهم ما تضمنته المحاضرة:
· ضيق الرقعة الزراعية عن مواكبة الاستهلاك الحالى للحبوب والقمح على وجه الخصوص، والذى يتصاعد بفعل الزيادة السكانية المطردة.
· قصور إنتاجية الفدان من الحبوب مقارنة بما يمكن أن تتيحه الأساليب العلمية الحديثة فى الزراعة.. فضلا عما أسهمت به كثرة من العوامل المرتبطة بتطوير الزراعة المصرية فى عدم القدرة على سد هذه الفجوة أو تضييقها مثل نظم الدورة الزراعية( التركيب المحصولى) ، والتسويق ، وتسعير المحاصيل ، وكذا قصور الكفاية التمويلية عن الوفاء بمتطلبلت العمليات الزراعية المتعددة وغيرها من أسباب خارج نطاق الزراعة.
· وحددت الحلول فى المحاور الآتية:
1– التوسع الرأسى : باستمرار استنباط المزيد من الأصناف والسلالات عاليةالإنتاج والمقاومة للأمراض وارتفاع الحرارة والظروف البيئية المعاكسة، فضلا عن تطوير استخدام الوسائل التكنولوجية المتطورة.
2- التوسع الأفقى: بزيادة المستصلح من الأرض إلى 3.4 مليون فدان حتى عام 2017 والتركيز على مناطق الزراعة المطرية بالساحل الشمالى ومناطق الوادى الجديد وشرق العوينات بسيناء للوصول بالمساحة المحصولية المنزرعة قمحا إلى 5.2 مليون فدان.
3- تطوير السياسة السعرية لمحاصيل الحبوب : وذلك برفعها لمستوى الأسعار العالمية لتحفيز الفلاحين على زراعة الحبوب، وزراع الخضر والفاكهة على استبدال زراعاتهم بزراعة القمح خصوصا فى الأراضى الجديدة، ونقل زراعة محاصيل العلف ( البرسيم) إلى الأرض الجديدة لإحلال زراعة الحبوب محلها.
4- المطالبة بعدد من الإجراءات الإدارية: لصد العدوان المستمر بالبناء على الأرض الزراعية حيث أصبح متوسط نصيب الفرد فى مصر من الأرض الزراعية حوالى 2-2.5 قيراط أى 400 متر مربع أى حوالى 800 متر مربع مساحة محصولية.
5- ترشيد الاستهلاك الخاص بالقمح: ليصل إلى 150 كجم فى السنة بدلا من 180- 200 كجم/فرد /سنة ، وخفض استهلاك مياة الرى بإنقاص المساحة المحصولية المنزرعة أرزا إلى مليون فدان ، واستحداث نوعية من الخبز البلدى من خليط القمح والذرة، واستبدال الدعم العينى بالدعم النقدى تدريجيا ليصل الدعم إلى مستحقيه.
ثانيا : قراءة نقدية لبعض ما جاء فى المحاضرة:
فى سياق ما تعرضت له المحاضرة بشكل عام تضمنت نصوصها ما يلى:
1– كل سلبيات السياسة الزراعية بدأت تظهر الآن .. مثل موضوع الأسمدة.
2- سياسة الاستثمار خاطئة وسياسة استصلاح الأرضى متوقفة.3- ما استصلح منذ خمسينات القرن الماضى 2 مليون فدان منها مليون فى مديرية التحرير.
4– ما يزرع من أراضى مشروع توشكى 600 فدان لا غير.
5- الأراضى المطرية فى الساحل الشمالى والعوينات والوادى الجديد فرصة جيدة للتوسع الأفقى لكنها لم تبدأ بعد.
6- توجد فى مصر 3 مليون فدان من المراعى مهملة.
7- متوسط ميزانية البحث العلمى فى مصر 1, % من الناتج المحلى الإجمالى بينما فى الخارج فبمتوسط 3% من ن . م . إ . أى ثلاثين ضعفا.
8 – زراعة الأرز تعنى تصدير المياة وتكلفة زراعته لا يدخل ضمنها ما يستهلكه منها ويلزم إنقاص زراعته إلى مليون فدان .9- إلغاء الدورة الزراعية أدى إلى فوضى التركيب المحصولى وأسفر عن:
أ- فشل فكرة تصدير الفراولة واستخدام عائدها فى استيراد الحبوب.
ب- توجد 170 ألف فدان تزرع سنويا باللب " للتسالى" .10- ارتفاع تكلفة الزراعة بسبب ترك مستلزمات الإنتاج الزراعى للتداول فى السوق كالأسمدة و التقاوى والمبيدات ..
11– إرتفاع أسعار الإيجارات الزراعية أسهمت فى زيادة تكلفة الزراعة.
12-التمويل الزراعى لا يخدم الفلاح ويرفع تكلفة الزراعة بينما فى الخارج يدعمون منتجى القمح.
13- السياسات السعرية لمحاصيل الحبوب لا تحفز الفلاحين على إنتاج الحبوب.
14- ضرورة الرقابة على المخابز لمنع تسرب الدقيق والخبز لمنع استخدامهما فى علف الحيوان والأسماك.
15- الدعم العينى لا يصل لمستحقيه لذا لا بد من استبداله بالدعم النقدى.
16- عجزالسكر 30% والزيوت 92% والقمح 50% .17- الحكومة هى المسئولة.. فهى تمنع البناء على الأرض الزراعية وعند كل انتخابات تفتح الكوردون وتصرح بالبناء.
18- لا نعرف على وجه التحديد ما هو دور القرية المصرية ؟ · وباستعراض ما سبق ( بنود10 ،11 ،12 ،13 ) نجد أن ارتفاع تكلفة الزراعة المصرية قد نجم عن ترك مستلزمات الإنتاج الزراعى للتداول فى السوق علاوة على ارتفاع إيجارات الأراضى الزراعية وكذا زيادة فوائد القروض فى بنوك القرى إلى 18% كالبنوك التجارية و لو أضفنا لهذه الأسباب الثلاثة زيادة أسعار المحروقات كالسولار والبنزين والزيوت والشحوم لأيقنا أن ذلك يتم عن قصد هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن السياسات السعرية لمحاصيل الحبوب لا تحفز الفلاحين على زراعتها، وبمقارنة سريعة مع مايحدث فى الخارج نجد أن الدول الأجنبية تدعم منتجى الحبوب للحفاظ على أوضاعهم الاقتصادية من ناحية وعلى مستوى إنتاج الحبوب وأسعارها من ناحية أخرى.
· أدى إلغاء قانون الدورة الزراعية فى عهد السادات ومن ثم إلغاء الدورة الزراعية إلى المساهمة فى تقليل خصوبة التربة وهى بديهية من بديهيات الزراعة، كما أدى إلى – حسب نص الكلمات- ( فوضى التركيب المحصولى ) وهذه الفوضى يمكن ترجمتها إلى:
1- تبديد مساحة ضخمة من الأرض الزراعية تقدر بمائة وسبعين ألف فدان فى زراعة محصول هامشى هو لب التسالى ( بند 9 ب).
2– إستحداث سياسة جديدة تتمثل فى زراعة الفراولة والكانتالوب لتصديرهما والاستعانة بثمنهما فى استيراد الحبوب.. ولو نجحت هذه السياسة لوفرنا جزءا من الحبوب لكن فى نفس الوقت ستقع رقابنا تحت سكين منتجى القمح فى الخارج وهو يضرب ما يسمى بالأمن القومى والغذائى فى الصميم ويتعارض مع سياسة الاكتفاء الذاتى من القمح التى تمثل صمام الأمان الوحيد لنا فى هذا المجال ، فما بالنا وقد فشلت تلك السياسة وانتهت إلى غير رجعة.. فلا صدرنا الفراولة.. ولا استوردنا بثمنها القمح ولا استثمرنا الوقت فى قطع خطوات فى تثبيت سياسة الاكتفاء الذاتى من الحبوب ( بند 9 أ ).
ولم يأت إلغاء الدورة الزراعية من فراغ فقد أفضى ذلك الإلغاء – مع أسباب أخرى- إلى القضاء على زراعة القطن المصرى طويل التيلة أفضل أقطان العالم قاطبة على مدى قرن من الزمان كما منع إمكانية تخصيص مساحات محددة من الأرض لزراعة الحبوب للحيلولة دون الاكتفاء الذاتى منها وساهم فى تبديد مساحات أخرى فى زراعات هامشية كاللب وغيرها وهكذا.
· أما عن سياسة التوسع الأفقى والرأسى فحدث ولا حرج .. حيث يمثل مشروع توشكى أول إسفين فى سياسة التوسع الأفقى فقد أدى إلى:
أ- تبديد ميزانية هائلة فى مشروع يستهلك جزءا هائلا من ماء النيل ولا تعود فائدته المباشرة على الشعب أو الفلاحين وإنما ستعود – إن كانت له فائدة- على مصمميه ومنفذيه ومستثمريه.
ب- إهدار أموال كان يمكن لها أن تزيد المساحة المزروعة أفقيا بنسبة كبيرة ( فى الأراضى المطرية.. التى تحتاج إلى دعم مائى يستكمل عدد ريات المحاصيل المزروعة بها) وفى الوادى الجديد وشرق العوينات فى سيناء، علاوة على أنه أوقف الاستفادة بمساحات المراعى المتوفرة (بند 5 ،6).
ت- توقف عمليات استصلاح الأراضى تماما ( بند 2 ).
ث- تقزم ميزانية البحث العلمى فى المجال الزراعى الذى لا يتجاوز 1/30 من ميزانيته فى الدول الأجنبية ( بند 7 ).
· أما عن المسئول عن كل ما سب
ق فلقد تضمنت المحاضرة ( ان الحكومة مسئولة عن تآكل المساحة المنزرعة لحساب عمليات البناء.. بند 17 ) وفى الحقيقة يمكن تعميم مسئولية الحكومة عن نصف ما سبق ذكره ، لكن المسئولية الأساسية عن كل ما سبق تقع على عاتق النظام الحاكم.. وذلك لأن عبارة ( لانعرف على وجة التحديد ما هودور القرية المصرية؟ بند18 ) تمثل مؤشرا صادقا عن أننا لا نعرف على وجه التحديد ما هو دور الحكومة أو ما هو دور النظام؟ فالقرية كانت دائما وحدة منتجة للحاصلات الزراعية .. نباتية وحيوانية .. وكان المفترض أن يتم تصنيع محاصيلها بإدخال الكهرباء والتكنولوجيا لزيادة الإنتاج وتوفير الوقت والجهد ورفع معدل الوعى والثقافة للإستفادة من هذه المدخلات الجديدة فى العمليات الزراعية.
· لقد تحولت القرية بالتدريج إلى وحدة مستهلكة .. فخبز المدينة يتسرب لإطعام حيوانات الريف وبعض سكانه من الموظفين، وعجز المواد الغذائية طالها مع المدينة بنفس القدر تقريبا (بند 16 ،17 ،18 ).
· أما عن مقولة ( أن الدعم لا يصل إلى مستحقيه.. لذا فلا بد من استبدال الدعم العينى بالدعم النقدى بند 15 ) فهى حيلة الساسة فى عصرنا الحالى التى يحاولون بها التخلص من الدعم العينى تماما حيث يتم ذلك على خطوتين الأولى تحويله إلى دعم نقدى والثانية التخلص من الدعم نهائيا بالتهام التضخم للدعم النقدى ونعتقد أن المحاضرة – من حيث القصد- لم تقصد ذلك لكنها اقترحت أداة معروف سلفا غرضها.. لذا وقعت فى المحظور.
ثالثا : الاتجاه العام لنهوض فلاحى:
لم تتطرق المحاضرة لصلة الفلاح بالأرض إلا فى مسألة الإيجارات الزراعية.. حيث أن عمليات طرد الفلاحين من أراضى الإصلاح الزراعى ومستأجرى أراضى الحراسة والأوقاف وكذا الأراضى الزراعية المحيطة ببعض المدن الكبرى كالإسكندرية تتم فى نفس السياق الذى تتم فيه عمليات رفع تكاليف الزراعة ( مثل أسعار مستلزمات الإنتاج والإيجارات الزراعية والمحروقات) بينما لاترتفع فيه أسعار محاصيلهم بنفس المعدل، ذلك السياق الذى يستهدف إزاحة فقراء وصغار الفلاحين ملاكا ومستأجرين من أراضيهم وتركيزها فى أيدى كبار الزراع أفرادا وشركات لتتحول إلى مزارع واسعة تستخدم أساليب الزراعة الكثيفة.. ولا تحتاج من هؤلاء الفلاحين إلا أعدادا محدودة تشتغل عمالا أوخدما فى تلك المزارع الجديدة.
هذا السياق – الذى يزيح الفلاحين بعيدا عن الأرض بالعنف أو بتقزيم الجدوى الاقتصادية لزراعة أراضى الفلاحين الصغار- يتسق مع جملة السياسات التى ترجمتها بعض عبارات الدكتور عبد السلام جمعة فى المحاضرة وإنْ بلهجة أو بلغة أخرى.. حيث تقف الشركات العالمية الكبرى العاملة فى مجال إنتاج وتسويق مستلزمات الإنتاج الزراعى عبر قارات العالم ودوله ومنها مصر وراء هذه السياسات، ويمثل وجود الفلاحين الفقراء والصغار بأعدادهم الكبيرة ومساحاتهم الصغيرة عائقا أساسيا أمام استحواذ هذه الشركات على السوق فى الريف .وهذا يترجم لنا لماذا ألغيت الدورة الزراعية؟ ولماذا صدر قانون الإيجارات الجديد؟ ولأى غرض أُطلقت مستلزمات الإنتاج الزراعى للتداول فى السوق؟.. لقد أصبح كل شئ واضحا وأعتقد أن محاضرة الدكتور عبد السلام جمعة قد أسهمت – من وجهة نظرى – فى تبيان ذلك رغم أنه يشغل منصبا رسميا ذا وزن وقيمة.إننا نعتقد أن وضوح هذه الصورة فى أذهان الناشطين فى أوساط الحركة الفلاحية شرط ضرورى لبداية صحيحة فى هذا المضمار ولا نبالغ إن قلنا أن وضوحها جوانبها الجوهرية فى أذهان الفلاحين شارط لاستمرارهم يعملون فى حرفة الزراعة ناهيك عن احتفاظهم بالأرض.