لماذا لايقاومون طردهم من الأرض بالشدة اللازمة ؟ الفلاحون بين جبروت النظام.. وطراوة اليسار. (4)*
(2) اليســــــار والفلاحــــــون.
بصدور قانون الإصلاح الزراعى فى 9 سبتمبر 1952 فى أعقاب الأحداث الدموية بكفر الدوار اعترضت عليه الأحزاب الرجعية وجماعة الإخوان المسلمين.. بينما أيدته بشكل عام التنظيمات اليسارية والفلاحون.
§ ونظرا لما شاب القانون من ثغرات تتعلق بالسماح للإقطاعيين بالتصرف فى المساحات الزائدة عن الحد الأقصى للملكية.. قامت السلطة الجديدة بمصادرة أراضى العائلة المالكة وبعض كبار العائلات الإقطاعية فور صدور القانون .. بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لبقية الإقطاعيين المقيمين فى الريف.
§ ولأن النظام الجديد كان يعتمد على الأجهزة القديمة فى تطبيق القانون مما سمح لكثير من الإقطاعيين بتهريب مساحات كبيرة من الأراضى والماشية والخيول والآلات والمحاصيل الزراعية والثروات لدرجة أن عددا منهم ظل متهربا منه حتى صدور القانون الثانى عام 1961، وقد كان الفلاحون والتنظيمات اليسارية بعيدين عما يحدث ولم يشاركوا فيه.
§ هذا وقد اندلع العنف فى بعض القرى بين الفلاحين والإقطاع، وأسهم فيه من ناحية شعور الفلاحين بأن تنفيذ القانون يتم بأجهزة معروفة بولائها ومناصرتها للإقطاع ومساعدته فى تهريب ممتلكاته وما أشيع عن تواطؤ البعض فى السلطة الجديدة مع الإقطاع .. ومن ناحية أخرى إدراك الإقطاعيين من أن هناك من يتعاطفون معهم ويسربون لهم الأخبار قبل صدورها لمناوأتهم للقانون .
§ لقد كانت الصورة العامة آنذاك .. هو أنه رغم جو البهجة الذى عم الريف فور صدور القانون فإن النظام الجديد قام بتطبيق القانون بأجهزة معادية أو تفتقد الإقتناع والإخلاص بينما تنظيمات اليسار والفلاحون لايشاركون فيما يحدث.
§ هذا واقتصر دورهما على الإبلاغ عن حالات التهرب من القانون بينما شهدت بعض القرى هبات عفوية ما لبثت أن همدت سريعا.
§ ونظرا لوضع التخلف الذى كان يخيم على الريف وتدنى الوعى السياسى للفلاحين حيث لاينخرطون فى تنظيمات سياسية أو حتى نقابية، وبسبب ضعف تواجد اليساريين بينهم وافتقارهم لخبرة العمل الفلاحي كانت تلك الهبات متسمة بالعفوية.
§ والحالة الوحيدة التى يمكن استثناؤها هى كمشيش حيث دخل الفلاحون فى مواجهات مسلحة واعية ومحسوبة امتدت لعدة سنوات مع الإقطاع أسفرت عن سقوط القتلى وعشرات الجرحى من الجانبين ومالت محصلتها لجانب الفلاحين الذين قادهم أحد اليساريين الحقيقيين وأفضت تلك المقاومة عن تطور وعى الفلاحين ورجحان كفتهم وكشف الأرض المهربة وتوزيعها على الفقراء منهم.
§ وحتى نتعرف على الدور المنوط باليساريين فى أوساط الفلاحين نشير إلى تجربة صلاح حسين فى قريته: حيث بذل جهودا دءوبة ومستمرة ليبيّن للفلاحين كيف أن الأرض لا تنتج دون عرقهم وأن مجرد امتلاكها لا يعنى قدر
ة ملاكها المباشرة على زراعتها، وكذلك توضيح كيفية حصول الإقطاعيين على ما يحوزونه من أرض ، وكيف أن ازدياد القوة الاقتصادية يفضى إلى امتلاك النفوذ والسلطان ، ومن ثم لا يمكن مواجهتهما إلا بقوة اقتصادية ونفوذ مضادين ولن يتأتى ذلك إلا باتحاد الفلاحين ليكونوا قوة مضادة ونفوذا مضادا. وهكذا تمكن من توحيد إرادتهم فخاضوا عدة معارك مسلحة ضد الإقطاعيين وانتصروا عليهم ، بل وتصدوا لمبعوث مجلس قيادة الثورة أنور السادات ورفضوا اقتراحاته الموالية للإقطاع ..
وكيف انتقل بعد ذلك لتوضيح كيفية تكوين قوة اقتصادية للفلاحين بتجميع أراضيهم والتعاون فى زراعتها معا وتوزيع صافى عائدها عليهم بنسبة ما يملكه كل منهم من أرض .
§ ولا نعتقد أن شيئا من هذا فعله اليساريون فى المواقع الريفية التى تواجدوا فيها ، وحتى لو كانوا قد فعلوا ذلك.. فلم يستطيعوا دفع الفلاحين لتبنيه ولم يلعبوا دور القدوة الذى لعبه صلاح حسين عندما كان يتقدم الصفوف (فى المعارك المسلحة أو فى كتيبة فلاحى القرية التى شكلها للمشاركة فى المقاومة الشعبية إبان عدوان 56 فى بورسعيد وقبلها فى مدينة السويس عام 1951 حيث انخرط فى كتائب الفدائيين ضد الاحتلال البريطانى.) ذلك لأن قدرة القائد السياسى لا تقتصر على التوعية الفكرية والسياسية فقط بل على نجاحه فى دفع الجمهور لتبنى ما يبثه من أفكار.
§ لقد كان سلوك اليسار فى الريف – بافتراض صواب تقديراته السياسية- مجرد رد فعل ضعيف لبعض ممارسات الإقطاع وليس لمجملها فى أفضل الأحوال ، ولم يتحول لقدوة تثير نخوة الفلاحين وخيالهم وتدفعهم لتبنى أبسط الأمثلة الشائعة فى الريف مثل " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة " علما بأن القوة هنا ليست مرادفة للعنف فى كل الأحوال.
§ لقد كان تفنيد المقولات السياسية والاقتصادية لأعداء الفلاحين وخصومهم غائبا فى معظم الأوقات عن ذهن اليسار الذى لم يكن بالجسارة اللازمة للقيام بتلك المهمات الثقيلة فى عهد عبد الناصر ، ولم يلتفت لذلك جزئيا سوى فى عهد السادات الذى أتى بالطوفان ليجتاح المجتمع.. وبالأعداء من كل اتجاه فأغرق الجميع، ورغم ذلك لم تكن فرصة القيام بذلك قد أفلتت .. بل كان من الممكن استئناف الارتباط الحقيقى بجماهير الفلاحين من خلال معارك رفع الحراسة ورفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج الزراعى واستيلاء بنوك التنمية على مدخرات الفلاحين فى الجمعيات الزراعية وإلغاء قانون الدورة الزراعية وكثير من الإجراءات التى دهورت أوضاع الفلاحين بشدة – وأبّدت وضعهم فى موقف الدفاع بشكل دائم – وما أكثرها فى سياسات هيكلة الزراعة.
§ صحيح أن اليساريين كانوا محاصرين.. وشكّل تخلف الريف عقبة أخرى أمامهم لكن واجبهم كان يقتضى القيام بذلك.
§ من ناحية أخرى تشتتت موجة جديدة من اليساريين بداية من منتصف السبعينات بين مراكزالبحوث والأنشطة الصحفية والثقافية ومراكز حقوق الإنسان وانحسرت بالتدريج أنشطتهم السياسية وأصبحوا أمام خيارين إما الكف عن ممارسة العمل السياسى أو الإنخراط فى حزب اليسار الشرعى ( التجمع).
§ الذى أسس فى عام 1980 إتحادا للفلاحين جمع أعدادا لابأس بها من القيادات الفلاحية (316) من مختلف محافظات الجمهورية (15-18 محافظة) وظل قائما حتى عام 1997، وتولى إدارته قياديون من حزب التجمع .
§ تمثلت أنشطة إتحاد الفلاحين حسبما نصت مطبوعاته فى:إقامة الندوات والمحاضرات والدورات التثقيفية والمؤتمرات السياسية فى كثير من القرى والمحافظات ، وفى إصدار النشرات والمشاركة فى المؤتمرات فى الدول العربية والأوربية.
§ وأصبح – كما ذكر قادته– "الممثل الوحيد للفلاحين والتعاونيين المصريين" ، ولأن الإتحاد عاصر الفترة التى شهدت أغلب التغيرات السياسية فى المجال الزراعى والفلاحى من تفريغ قوانين ( التعاون والائتمان والإرشاد والإصلاح الزراعى) من مضامينها وإلغاء بعضها (الدورة الزراعية والإيجارات الزراعية) ،وإجراءات شتى مستجيبة لروشتة البنك والصندوق الدوليين تحت لافتة هيكلة الزراعة.وعمل بنشاط إبان صدور قانون الإيجارات الزراعية 96/1992 فجمع مائتين وخمسين ألف توقيع رافضة للقانون وعقد عشرات المؤتمرات السياسية وشكل وفودا لمقابلة المسئولين وقام بعدة حملات إعلامية.
§ وخلال العام السابق لتنفيذ القانون 96/92 تصاعدت أعمال العنف بين الفلاحين من ناحية وقوات الأمن وملاك الأراضى وورثة الإقطاعيين من ناحية أخرى ، وتساقط القتلى بالعشرات والجرحى بالمئات فضلا عن اعتقال عشرات الآلاف أثناء عمليات إكراه الفلاحين والحصول على تنازلهم عن الأراضى المستأجرة تحت لافتة التوفيق بينهم وبين الملاك.
§ وانتهى ذلك الوضع بزحف آلاف الفلاحين لمقر حزب التجمع بالقاهرة الذى هو مقر اتحاد الفلاحين فى محاولة لإيجاد مخرج من الأزمة .. إلا أن قيادة الحزب أفزعتها حشود الفلاحين التى اكتظ بها المقر وسط حصار بوليسى وتهديدات باستخدام العنف مع الفلاحين الذين لم يفلت منهم إلى داخل القاهرة سوى سبعة آلاف فى الوقت الذى احتجز الأمن أضعافهم خارجها .. فقامت إدارة الحزب بفض الحشد وإنهاء المؤتمر ومطالبة الفلاحين بالعودة إلى قراهم وإخلاء المقر فورا.
§ وبهذه النهاية الدرامية فاضت روح اتحاد الفلاحين وانكشف موقف قادة حزب اليسار الشرعى الذى أسسه أنور السادات وتضمنت برامجه دعم النضال الفلاحى.
§ وإذا ما قرأنا وثائق اتحاد الفلاحين لوجدنا أنها تنص على( أنه كان يعانى من عدد من السلبيات منها: "ضعف التواجد العضوى وسط الفلاحين، وعدم انتظام الصلة بين القيادة المركزية والقرى والمحافظات، واعتماد الحركة على عدد محدود من القيادات ، وعدم انتظام صدور نشرة الاتحاد أو استمراريتها، وعدم إقامة مشروعات تعاونية.")
§ وهو ما يعنى أن قيادة الاتحاد فى القاهرة كانت فى واد والفلاحون فى واد آخر.. بل وأن الصلة غير المباشرة المتمثلة فى صدور النشرة التى تتضمن التقارير القادمة من المحافظات والتوجيهات المرسلة للمواقع الفلاحية غير منتظمة وغير مستمرة، وأن حركة الاتحاد مقتصرة على عدد معروف من قيادات حزب التجمع لا تزيد بل تتناقص ، وأن عضويته من الفلاحين شكلية. فماذا تبقى إذن من اتحاد الفلاحين بعد ذلك ؟!
لقد سقط اتحاد الفلاحين بعد سبعة عشر عاما من تأسيسه عندما تعرض لأول اختبار جدى.
§ الأهم من ذلك أن اتحاد الفلاحين كان قد اقترح مشروعا لحل معضلة قانون الإيجارات 96/92 يتلخص مضمونه فى:
الموافقة الضمنية على القانون ،